19 سبتمبر 2025

تسجيل

رسائل الانتخابات التركية

18 يونيو 2011

إنها الانتخابات الـ 17 منذ اعتماد التعددية الحزبية في تركيا في العام 1946. وهي مسيرة ديمقراطية كانت محفوفة بالتحديات والنجاحات والإخفاقات، ثلاثة انقلابات عسكرية ومثلها غير مباشر من وراء الستار فضلا عن نظام وصاية عسكري مستمر. الانتخابات الـ 17 هي الأولى التي تجري منذ انتهاء نظام الوصاية الذي سقط في استفتاء 12 سبتمبر من العام الماضي. جرت الانتخابات وسط توقعات عامة بانتصار كبير لحزب العدالة والتنمية. وأهمية الانتخابات، أي انتخابات، إنها تكشف عن مكنونات لا تظهر على السطح لدى المواطن إلا في الانتخابات. فغالبا ما يرجّح الإعلام والضجيج كفة على أخرى بصورة خادعة أو غير عادلة. الانتخابات النيابية التركية التي جرت الأحد الماضي كشفت عن مجموعة من الحالات المهمة جدا والضرورية لتصويب مسار أي حكم إن أراد ولصورة ما يمكن أن تكون عليه تركيا المقبلة. 1- فوّض الشعب التركي بنصف ناخبيه رجب طيب أردوغان ليستمر في قيادة حزب العدالة والتنمية والبلاد لولاية جديدة عندما حصل على خمسين في المائة من الأصوات.وليس غريبا ذلك إذ أن أردوغان منح الأتراك رفاهية اقتصادية مهمة واستقرارا سياسيا وموقعا مميزا لتركيا في المنطقة والعالم. 2- لكن هذا الشعب نفسه منح أيضاً دعما إضافيا لسائر الأحزاب المعارضة، حزب الشعب الجمهوري العلماني تقدم خمس نقاط من 21 إلى 26 في المائة وزاد عدد نوابه من 112 إلى 135. وحافظ حزب الحركة القومية على موقعه بـ 13 في المائة رغم حملات أردوغان الشرسة جدا لتدميره ووراثة أصواته. كما أن حزب السلام والديمقراطية الكردي حقق انتصارا مدوّيا في المناطق الكردية واسطنبول ورفع عدد نوابه في سابقة تاريخية من 20 إلى 36 نائبا. 3- هذا الدعم الشعبي للجميع ترجم عبر خريطة توزيع المقاعد النيابية رغبة في التوازن بين القوى السياسية وعدم منح أردوغان سلطة مطلقة لترجمة سياساته.إذ أن أردوغان فشل في ترجمة أبرز عناوين حملته الانتخابية والتي كانت بين حدّين. الأول الحصول على ثلثي المقاعد النيابية أي 367 من أصل 550 نائبا بما يتيح له تقديم دستور جديد في البرلمان من دون العودة إلى استفتاء شعبي. والثاني هو الحصول على الأقل على 330 مقعدا هو الحد الأدنى الضروري لأي تعديل دستوري يفشل في البرلمان لكن يمكن إحالته إلى استفتاء شعبي. حتى هذه الإمكانية حُرم منها أردوغان. وهو ما يعكس رسالة شعبية إلى أردوغان بضرورة عدم التفرد بحكم تركيا وضرورة التفاهم مع المعارضة في القضايا الأساسية ولاسيَّما في إعداد الدستور الجديد. إذ أن المخاوف من تحوّل سلطة أردوغان إلى حكم الحزب الواحد والشخص الواحد تزداد في تركيا. وما أسفرت عنه الانتخابات يعتبر بالفعل خطوة مهمة نحو إعادة التوازن السياسي الداخلي. 4- غير أن الدرس الأكبر أمام أردوغان كان استمرار تراجع حضوره في الوسط الكردي حيث مقابل تقدمه في كل المناطق كانت شعبيته تشهد تراجعا ملحوظا في المناطق الكردية ما يعني أن سياسته الكردية لم تلق القبول وأن عليه أن يبحث عما هو أبعد من خطوات فولكلورية في مقاربة هذه المشكلة والاستماع جيدا للعصب الكردي الأساسي المطالب بالحكم الذاتي وضمانات في الدستور الجديد تعترف بالهوية الكردية. وستكون القضية الكردية مقياسا لجدية أردوغان وكل القوى السياسية التركية في أن تكون تركيا بلدا حديثا يحترم الحريات والهويات. 5- ومن الظواهر اللافتة التي عبّرت عنها نتائج الانتخابات هي نزوع تركيا إلى التكتلات الحزبية الكبيرة.إذ أن حاجز العشرة في المائة لدخول البرلمان بدا عديم الأهمية لأنه لم يعد هناك أحزاب في الأساس تفشل في نيل العشرة في المائة. ذلك أن الأحزاب التي فشلت في الدخول إلى البرلمان لم تنل سوى واحد أو نصف في المائة أي كأنها غير موجودة لكي ترثها الأحزاب الفائزة. وبلغت نسبة تمثيل الأحزاب الفائزة للناخبين حوالي 96 في المائة وهذه نسبة عادلة جدا إذ لم يبق أحد له حيثية غير ممثل في البرلمان. وباتت خريطة النزعات السياسية في تركيا تتمحور حول أربعة اتجاهات: اليمين المحافظ الذي يمثله حزب العدالة والتنمية(50 في المائة). اليسار العلماني المتشدد الذي يمثله حزب الشعب الجمهوري(26 في المائة). القوميون المتشددون ويمثلهم حزب الحركة القومية وهؤلاء قد يتداخلون مع حزب العدالة والتنمية(13 في المائة). والنزعة القومية الكردية ويمثلها حزب السلام والديمقراطية(7 في المائة تقريبا ولهم 36 نائبا دخلوا البرلمان كمستقلين). ومثل هذه الخريطة السياسية الجدية ستكون لها تأثيراتها المستقبلية على طبيعة الصراعات السياسية في اتجاه المزيد من الاستقطابات. 6- وإذا كانت رسائل الانتخابات الداخلية واضحة فإنها فرضت أيضاً تحديات على أردوغان في سياساته الخارجية. فتكبيل يديه في إعداد دستور جديد يؤثر سلبا على زخم التقدم على الطريق الأوروبي وهي أحد رهانات أردوغان الخارجية. لكن أردوغان حاول أن يلتف على هذا القيد على حركته الإصلاحية بتعويم صورته الخارجية عبر خطابه من على شرفة مقر حزب العدالة والتنمية الذي أهدى فيه الانتصار الشعبي إلى عواصم المنطقة العربية وبعض المناطق في البلقان والقوقاز، وفي هذا يريد أردوغان أن يقول للأوروبيين إن تركيا هي حاجة لهم في الشرق الأوسط كنموذج للديمقراطية وهذا يستدعي أن يثق الأوروبيون بالتجربة التركية و"يعطفون" عليها أكثر لتسريع انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. إنه انتصار لأردوغان بطعم الهزيمة، لكن الانتصار الفعلي كان للتوازن في اتخاذ القرارات ومنع البلاد من الجموح إلى شخصنة الحاكم، وهذا هو جوهر العملية الديمقراطية.