18 سبتمبر 2025
تسجيلسيظل التعليم هو الهم الأكبر للمشتغلين في هذا القطاع ولصنّاع القرار وواضعي الإستراتيجيات.. وسيظل هو محور اللقاءات والنقاشات في الندوات والمؤتمرات.. هي الأسئلة ذاتها تتكرر في كل ملتقى أو تجمع تربوي.. تعليمنا الجامعي إلى أين، وماذا يفرق عن المراحل التي سبقته، وما الذي يجده الطالب الجامعي وقد اختلف عن المرحلة التي كان فيها، وإلى متى يظل التعليم الجامعي تقليديا لا يتطور.. إلى غير ذلك من أسئلة عديدة متنوعة.الحاصل أن نوعية مخرجات التعليم الجامعي في غالبية البلاد العربية، ليست بالمستوى المأمول المنشود، والتأهيل ليس بالمستوى المطلوب، والسبب لا تتحمله تلك المخرجات التعليمية لوحدها فقط، بل النسبة الأكبر من المسؤولية تقع على عاتق راسمي وواضعي السياسات والإستراتيجيات التعليمية ومنها المناهج، مع فتور عام مسيطر على أجواء التعليم الجامعي، سواء على الطلاب أو الأساتذة، ولابد أن لذاك الفتور من مسببات، ولابد من حلول ناجعات. يبدأ الطفل منذ السنوات الأولى من حياته في الروض والحضانات، التي تشغل ذهنه بخليط غير متجانس من الكلمات، هي على الأغلب لأناشيد وأغان لا معنى لها بشكل عام، ما بين عربية ولغات أجنبية، حيث تتفتح أذهان الطفل في أفضل سنوات عمره وبكثافة، على لغة غير لغته الأم، فيفقد أساسيات لغته الفصحى، التي كانت إلى وقت قريب، تؤسس في مدارس حفظ القرآن ومن قبلها الكتاتيب، فينشأ الطفل فصيحاً واثقاً من قدراته الكلامية والإنشائية.. حتى إذا ما بدأ تعليمه العام منذ الابتدائية وحتى الثانوية، وجدته يتدحرج في الانتقال من مرحلة إلى أخرى، لا يهمه سوى النجاح، بغض النظر عما يُقدم له من علوم ومعارف ومهارات.. النجاح أولاً ثم النجاح أخيراً وإن كان فارغ الذهن.. وهكذا تمضي سنواته الاثنتا عشرة، وهو يتعمق ضعفاً في لغته الأم، كتابة وقراءة وفهماً، إضافة إلى سطحية بالغة في فهم دينه وثقافته وتاريخه كذلك، ومرد ذلك إلى نشأة هشة مهلهلة على لغة غير لغة القرآن.. وبذاك المستوى من الاحتشام المعرفي وكذلك المهاري، يبدأ تعليمه الجامعي، ليستمر ضحية لبداية غير سوية، في مسلسل بالغ الضعف، مع ركاكة معرفية ومهارية. يدخل الطالب سنته الأولى في الجامعة، معتقداً أنه في بيئة تعليمية جديدة مختلفة، فإذ هو في أجواء الثانوية تارة أخرى. لم تتغير عما سبق وأن عاشها من أجواء سوى التوقيت، فبدلاً من الحصص السبع التي كان يبدأ بها يومه من السابعة حتى الثانية، وجد نفسه قد يبدأ التاسعة يوماً، والحادية عشر يوماً آخر.. يوم يدرس مادتين، ويوم آخر بثلاث ويوم ثالث بلا مواد، بحسب جدوله الذي سيقوم بعد حين بترتيبه بنفسه، وفق مزاجه وجدوله اليومي.. ومع الأيام سيتأكد أكثر فأكثر من أن الأمر لم يختلف، كما أسلفنا، عما كان عليه في الثانوية مثلاً.. في غالب جامعاتنا العربية، تجد أن أساليب التدريس روتينية تقليدية، الأساتذة كما لو أنهم في مدارس إعدادية أو ثانوية، لا يختلفون في طرائق العرض والشرح عما عليه المعلمون في المدارس.. تلقين وحفظ وامتحانات تقليدية، وبحوث لا يدري غالبية الطلاب أساسيات كتابتها، أو كتابة أبسط أنواع التقارير.. الطالب لا يخرج عن الكتاب المقرر أو ملخصات المادة. لا تجد عنده تلك الهمة للبحث والاطلاع، بل لا يوجد عنده الحافز للتوسع في المادة أكثر مما سمعه أو أخذه من الدكتور! الجامعات بحاجة إلى تطوير نوعي ليس في بعض المظهريات الإعلامية أو الأنظمة الإدارية فحسب، بل في كادر التدريس، وهو الأساس.. لابد من إدارة الجامعات العمل على جعل الطالب الجامعي المبتدئ يشعر أنه في جامعة وليس مدرسة.. لابد أن يدرك الطالب أنه في موقع تعليمي أساسه البحث والنقاش وإبداء الرأي، لا الحفظ وتفريغ ما بالذهن على أوراق الامتحانات كما كان عهده بالتعليم العام. لابد أن يكون معيار النجاح هو قدرة الطالب على البحث والتوصل إلى المعلومة وكيفية استثمارها ونقدها، وفق أدوات من المفترض أن يتدرب عليها ويتعلمها في الجامعة، إضافة إلى مهارات يكتسبها في مجالات النقاش وإبداء الرأي أو الجدال العلمي، لا أن يكون معيار التفوق والنجاح، هو قدرته على حفظ الملخصات وما بالكتب من حقائق وأرقام وتواريخ وأسماء.. فما الهدف من جعل الطالب يقضي جل وقته في حفظ تواريخ أحداث أو أسماء وحقائق أخرى، ليفرغها في امتحان اليوم التالي؟ أليس تدريبه وهدايته إلى وسائل البحث عن تلك المعلومات والحقائق هي الأفضل والأكثر فائدة له في دراسته وقادم حياته أيضاً؟ الجامعة بشكل مختصر، هي تعليم الطالب على البحث والتوسع في الاطلاع ثم النقاش والنقد الهادف البناء، مع تدريب وتعليم على مهارات التعامل مع المصادر والمراجع والقدرة على الكتابة، وغرس حب العلم في نفوس الطلاب لأجل الاستمتاع بالمعرفة وسهولة الوصول إليها، لا الاستمرار والتشجيع على القص واللزق وسرقة الأفكار والأعمال، ليجد الطلاب أنفسهم بعد حين من الدهر قصير، في عالم بيع وشراء البحوث الجاهزة ! ما لم تتدارك الجامعات تلكم المسائل، فالمخرجات ستظل ضعيفة هشة. وما لم تتنبه الجامعات وتلتفت إلى الداخل وتعيد تقييم كادر التدريس، وتعمل على تطوير الممارسات التدريسية الفعالة عند الأساتذة، لاسيما القديم منهم، ورفع قدراتهم في التعامل مع التقنية بصورة تنافس قدرات ومهارات طلابهم، فإنها ستظل سبباً في استمرار ضعف المخرجات، وتكون سبباً يزيد ضعف الطلاب على ما هم بدأوا عليه من ضعف.. فهل من مدّكر؟