31 أكتوبر 2025
تسجيل1948 هو رقم صعب في الذاكرة العربية. لم يكن عاماً عادياً إذ أنه سيؤرخ لحقبة جديدة في التاريخ العربي. هو يوم ميلاد نكبة فلسطين، بل نكبة العرب جميعاً. لم يكن يدور بخلد العرب يومها أن هزيمتهم عام ثمانية وأربعين سيكون لها هذا التداعي الكبير، فالحروب سجال، كما تقول العرب، يوم لك ويوم عليك. لكن أياما تذهب وأخرى تأتي، وحالنا يتردى من سيء إلى أسوء. ضاعت فلسطين من البحر إلى النهر، وضاع معها التاريخ وشوّه. ولولا أن المؤرخ العربي السوري قسطنطين زريق نبهنا إلى أن ما حصل كان نكبة وليس مجرد هزيمة عابرة حين وضع كتابه "معنى النكبة" عام 1948، لما أدركنا حجم المآسي التي تنتظرنا سنة بعد أخرى.. أقل ما يمكن أن يقال في حق هذه النكبة وفي ذكراها الأليمة أنها كانت البداية لسلسلة من الانكسارات والنكبات. فذكراها اليوم لا يحمل تاريخاً أليماً إلى حاضرٍ أفضل، بل يكشف عبء الماضي الذي يتجدد كلَّ صباح مع اللاجئ الفلسطيني. عقود مرت على النكبة ولا تزال.. المآسي تكبُرُ، والآمالُ تضيق، ويصبح الحلْم أنيس الباحث عن دولة تحت الشمس بعد أن سرقها من وجدان أطفالها بنيامين نتنياهو وأسلافه القادمون من وراء النهر أو من وراء البحار في زمن الانهيار الإنساني والقيمي. تشرد الفلسطينيون داخل فلسطين وخارجها، وبات يطلق عليهم "لاجئو الشتات" والأصح أنهم لاجئون في دول الشتات. والنكبة التي تتجدد كلّ يوم في المآسي التي تلاحق الطفل الفلسطيني إلى حلمه الذي لم يولد بعد. اليوم لن نتذكر المآسي التي طبعتها النكبة على جبين اللاجئ الفلسطيني بل نحتاج أن نتلمس ألمه الذي يولد من نكبات أخرى فُجرت في طريقه لم يكن له فيها نصيب. فهل يمكن لصاحب ضمير أن يستذكر النكبة دون أن تفرض نفسها عليه الظروف التي يمرّ بها الشعبان السوري والفلسطيني اليوم؟ اللاجئون الفلسطينيون في سوريا اليوم هو رقم صعب أيضاً في تاريخ النكبة.. حالُهم لا يختلف عن حال آبائهم عام ثمانية وأربعين.. فصلٌ جديدٌ يكتب لهم في كتاب اللجوء فهم يفرون من الشتات إلى الشتات.. إلى لبنان وخلسة إلى دول أخرى بعد أن رفضت دول عربية استقبالهم أو الاعتراف بهم كلاجئين على أراضيها لأسباب لم تعد تخفى على أحد.. أعدادهم لا تقل عن مئة ألف ممن هُجّر ودمّر وتعرض للقتل والابتزاز وغيره. هل يحق لنا أن نسأل هؤلاء في ذكرى نكبتهم عن آلامهم وآمالهم أو كيف يستذكرون نكبتهم الأولى وكيف يحيون ذكراها؟ وهكذا من نكبة إلى أخرى حتى أضحت النكبة الأولى تفصيلاً أمام هول المآسي التي تلاحق الأبناء.. لم تعد فلسطين من النهر إلى البحر لأهلها كما كان يعدنا زعماء العسكر في الستينيات وما تلاها.. وفلسطين الكبرى لم يعد أمراً نحلم بتحقيقه في المستقبل المنظور، كما لم تعد كلمات الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ذات معنى في هذه الأيام. أقصى أحلامنا هو بناء دولة فلسطينية تربط جزءا من الضفة الغربية، وليس كلها، بقطاع غزة، آملين أن يكون لها شيء من السيادة. أما الحديث عن عودة اللاجئين، وترسيم الحدود نهائياً، وإنهاء قضية الأماكن المقدسة، بما فيها مدينة القدس التي احتلت عام 67 فكلها أمور لا تشي بأي تقدم مع محتل يقف الغرب بمجمله داعما له في صلفه وتكبره وظلمه المستمر لشعب يناضل ويكافح، خوفاً من أن تغتال ذاكرته بعد أن سُرقت أرضه وزُوّر تاريخه ومُزّقت عائلته وتفرقت بين الأمصار.. لا شيء يقال قد يخفف من وطأة الذكرى أو يعيد شيئاً مما سُرق ويسرق يومياً.. حسبنا أن نقول: لا يضيع حق وراءه مطالب.