14 سبتمبر 2025
تسجيلربما هدأت الأوضاع في مدينة طرابلس شمال لبنان.. ربما لا.. لم يعد هناك فرق، حقيقة، لمن يتابع أحداث باب التبانة وجبل محسن، بزواريبها الضيقة التي يشتهر صيتها أكثر مما يشتهر علماء المدينة ومفكروها في الفضاء العربي.فلا مزية إذا ما توقف نزيف الدم، كما لا فضيلة تستحق الذكر لدى من يحمل بندقية ويصوب نحو جاره الذي يسكن على بعد أمتار من منزله، طالما أن القاتل لا يدري لما يقتل، ولا المقتول يعلم فيما قتل. حال يتكرر عند كل خلاف سياسي بين الزعماء والقادة السياسيون.. وذرائع التفجير كثيرة ومتنوعة وخصبة لا يعقم رحمها.. وأي مفاجأة قد يحملها انفجار الوضع الأمني في طرابلس في ظل الأحداث التي تشهدها المناطق اللبنانية كافة من خطف واعتصامات وقطع طرقات، وغياب واضح لهيبة الدولة ومؤسساتها؟ لم تعد الخطورة تكمن في بورصة عدد القتلى والجرحى يومياً، ولا في استعمال الأسلحة الثقيلة مثل "سلاح الهاون" في مدينة مكتظة بالسكان، وضمن خمسة كيلومترات مربع على أبعد تقدير.. لم يعد يهم كيف بدأت المعركة.. ومن حركها.. ومن استثمر فيها؟ كل ذلك لم يعد يهم.. فالمدينة أصبحت رمزاً لصراع الديوك، ومحطة بريد للرسائل العابرة بين الأحزاب الداخلية من جهة، والأقطاب الإقليمية المتصارعة من جهة أخرى. حال اعتدنا عليها، نحن اللبنانيين، حتى أضحى سائلنا يقول، حين يتراشق السياسيون بالكلمات اللاذعة، ويعلو صوت التهديد والوعيد: متى ينفجر الوضع بين "باب التبانة " و"جبل محسن"؟ ولعل ما يمكن استنباطه في أحداث طرابلس التي لم تنته، كما أعتقد، ولا أظن أنها ستنتهي، حتى لو برد سطحها لأن الجمر لن ينطفئ طالما يجد ما يستعر به.اعتدنا أن تكون مدينة طرابلس الخاصرة الرخوة من بين المدن والمناطق اللبنانية عند هجوم أي مرض للجسم اللبناني، إلا أن الخطورة اليوم لم تعد تنحصر في تداعيات وملابسات الأحداث في طرابلس وإنما فيما ترسله هذا الأحداث من إنذارات وأمارات تذكرنا بالإمارات التي تسردها الكتب المقدسة لتأكيد نبوءة أو تحذير من انتقام سماوي.أخشى ما أخشاه أن تتحول أحداث طرابلس اليوم لتكون أمارة وعلامة لما هو قادم لكل لبنان وليس لمنطقة أو مدينة أو قرية فيه.. فما يشهده لبنان اليوم شبيه إلى حد بعيد بما كان عليه الوضع عشية اندلاع الحرب الأهلية في العام 1975 والتي دامت قرنين ومازالت تداعياتها قائمة إلى يومنا هذا. ولعل التشابه الكبير بين الحالة الاجتماعية اليوم وما كانت عليه أيام 1975 تنذر بإرهاصات مخيفة من أن تعود الحرب وبسخونة أكبر بكثير مما كانت عليه في حينها. وعودتها اليوم ستكون أكثر شراسة وقبحاً مما كانت عليه لأن اللبناني اكتسب خبرة، ويا للأسف، في حرق الأخضر واليابس وفي توليد الحجج والمبررات لأي قذارة قد يرتكبها في حق أهله ووطنه.لم يعد لصوت "الاعتدال" مكان في لبنان، ولم يعد هناك فئة تدعمه، وحال أهله – أي الاعتدال - في المجتمع اليوم كحال الطبقات الاجتماعية المتوسطة التي تم القضاء عليها وسحقها تماما خلال الحرب وبعدها، حتى انقسم البلد بين فئتين، إحداها غنية، وهي فئة قليلة، وأخرى فقيرة، وهي الأغلبية الساحقة من المجتمع.نفتقد اليوم في لبنان "صوت العقل " كما نفتقد " المواطن".. أما الأغلبية الصامتة بالمجتمع فهي منكفئة على ذاتها بعد أن أصابها اليأس من التغيير، حتى علا صوت التطرف المذهبي والطائفي، وساد من له الغلبة المالية والحزبية على الغالبية الغائبة، متسلحاً بأفكار إقصائية وإلغائية شديدة التطرف.فلمصلحة من تسقط الدماء؟ وما الهدف الأسمى الذي يجعل أهل البيت الواحد يتقاتلون؟ ومن المستفيد من عودة الحرب الأهلية إلى لبنان؟ أسئلة قد نعجز يوماً في إيجاد أجوبة لها، طالما أننا نعيش أفراداً وجماعات في كنتونات ثقافية واجتماعية نُسميها، تلطفا، "الطائفية ".