16 سبتمبر 2025

تسجيل

مشاهد ما بعد الثورة في تونس

18 أبريل 2014

الخوف من أن تكون الثورة قد أجهضت تماماً أو أن تكون في طور الإجهاض أضحى ظاهرة مشتركة في جميع الدول العربية التي انطلقت فيها ثورات الربيع العربي من مصر إلى تونس إلى ليبيا ثم اليمن وانتهاء بسوريا.. في تونس، على سبيل المثال، لا يتحدث مثقف أو مهتم بالشأن العام للبلاد إلا ويبدي خوفه العميق مما آلت له الأمور اليوم.. بعيد الساعة الثامنة ليلا لا تكاد تجد متجولا في شوارع العاصمة تونس. أفراد فقط، ربما يعدون على أصابع اليد الواحدة، يتسكعون هنا وهناك على طول شارع الحبيب بورقية.. الشارع الأشهر في البلاد قبل الثورة وبعدها. وعجبك يزول مباشرة حين يجيب الجميع بالنفي على سؤالك حول ما إذا كان الشعب التونسي ينام باكرا جداً خلافا لبقية الشعوب العربية؟ لا، وإنما هو أمر مستجد بعد الثورة.. الناس بعد الثورة تخاف من فلتان الأمن فتفضل البيوت ليلا على الخروج إلا لقضاء حاجة ملحة.. كل شيء في البلاد آل إلى الأسوأ ما عدا الحرية.. هي الشيء الوحيد الذي منحته الثورة للشعب التونسي، يقول محدثي.تزامنت زيارتي للبلاد مع حدثين هامين ورمزيين في آن واحد.. أحكام قضائية مخففة ضد رموز النظام السابق ممن تورطوا بقضايا فساد ونهب منظم للشعب التونسي.. سألت لماذا هي مخففة؟ فكان الجواب: وفق القانون لا ممسك قوي على هؤلاء! الإجابة ذاتها تجدها في بلاد أخرى، فمن ثار الناس عليهم لا يجد القضاء الكثير من القضايا ليدينهم عليها. الحدث الثاني هو ما تناقلته وكالات الأنباء حول خطف دبلوماسي تونسي في الجارة الليبية. الأمر محير فتونس بعد سقوط القذافي غزاها الليبيون ممن كانوا يحسبون على نظام القذافي أو انخرطوا في الكتائب التي كانت تقتل الشعب الليبي.. الغزو الليبي لم يقتصر على أنصار القذافي، ثمة نقل منظم وسري للسلاح الليبي إلى الجنوب التونسي، مهد الثورة التونسية.. السلاح كثير ويتعدى الخفيف إلى ما هو أعلى منه بكثير.. هو بات في أيدي كثير من الناس في الجنوب التونسي رغم أن ثقافة حمل السلاح ليست من عادات وطباع الشعب التونسي. الخطورة أن هذه المناطق لا تزال حانقة على الدولة وهي تراها تأخذ الفوسفات الموجود في أراضيها لتغذي به معدة المدن الشمالية المحسوبة على العاصمة.. إذن ثمة انتفاضة جديدة في الأفق، ربما تكمل ما بدأته الجولة الأولى منها والتي انتهت بطرد ابن علي من تونس الرئيس المخلوع كما يحلو للتونسيون وصفه.. وتستبين طبيعة الخطورة كما يحكي لي أحد المهتمين بالشأن العام في البلاد من أن هذه المرة ستكون الانتفاضة المسلحة ويعلم الله أين ستذهب البلاد حينها.. الجميع محبط.. أغلب الناس انتخبوا حركة النهضة، لكن أغلب من انتخبها يرفضها اليوم لأنها تماهت مع طاحونة النظام القديم، يتابع محدثي: كل شيء يتغير إلى الأسوأ. أسعار العقارات والسلع الاستهلاكية ارتفعت كثيرا جداً، والحرية التي منحت لنا هي أقرب إلى الفوضى كما يمارسها الناس اليوم.. الناس محبطة اليوم لا تعرف كيف ستسير الأمور.. هو ممتعض لا شك لكنه لا يجزم بما ذهب إليه صديقي الصحفي. يرى الأخير أن الحكومة الحالية لن تجري انتخابات قادمة لا في سنة ولا سنتين، وحركة النهضة التي فشلت في الحكم أكلت الضرب من النظام القديم المتغول في كل مؤسسات الدولة، يعقب صديقي الصحفي.. أيا كانت التكهنات فإن حالة الإحباط تبدو بادية على وجوه شرائح كثيرة من المجتمع التونسي وهو كان يعلق آمالا كثيرة على الثورة، وقد مضت ثلاث سنوات على شرارة الثورة وما تحقق من أهدافها لا يعتد به إذا ما قيس بحجم ما خلفته من مشاكل، وما أبرزته من تحديات تبدو الحكومات المتعاقبة عاجزة عن حلها في القريب العاجل. وإن كان من خطورة في الأمر فهي مرتبطة بمنسوب الخيبة عند الشعوب العربية التي علقت آمالا كثيرة على الثورات العربية وتحديدا على الثورة التونسية في أن تكون فاتحة أمل في الخروج من عنق الزجاجة التي تعيشها الشعوب العربية. إنه لأمر محزن أن تصل الأمور بالثورات العربية إلى ما هي عليه الآن، وسنحزن أكثر إذا ما استمر التدحرج أو تم إجهاض الثورات تماماً فقد يختفي الأمل في النهوض والتحرر وبناء دول حرة ديمقراطية لجيل أو جيلين على أقل تقدير لا سمح الله.. عافا الله الثورة التونسية وأخرج الثورة الليبية من حالة التشظي والتمزق والفوضى الأمنية وأدام الله علينا نعمة الأمل فهو المتبقي الوحيد في خاطر هذه الشعوب المقهورة.