19 سبتمبر 2025
تسجيلأنهى رئيس الحكومة التونسية السيد مهدي جمعة زيارة ناجحة للولايات المتحدة الأمريكية يوم 4 أبريل الجاري، توجت باستقباله من قبل الرئيس الأمريكي باراك أوباما في البيت الأبيض لمدة 45 دقيقة، ومنح الولايات المتحدة الأمريكية لضمان قرض لتونس بنحو 500 مليون دولار، وعن تفعيل اجتماعات الاتفاقية الإطارية للتجارة والاستثمار التي لم تجتمع منذ 2012، وحصول تونس على منحة أمريكية بقيمة 20 مليون دور سينتفع بها 400 طالب تونسي في أحسن الجامعات الأمريكية خلال السنوات المقبلة. يعتقد المحللون المتابعون لهذه الزيارة، أن هناك حواراً استراتيجياً قد حصل بين أميركا وتونس، لاسيَّما مع الحكومة الجديدة المتكونة في معظمها من النخب الليبرالية المتكونة في الجامعات الغربية، والتي عملت في المؤسسات الدولية المانحة،وفي ظل المتغيرات التي تشهدها تونس، بعد خروج حركة النهضة الإسلامية من الحكم، وتوجه تونس نحو إقامة ديمقراطية تعددية حقيقية ناضلت من أجلها أجيال كاملة من المناضلين التونسيين على اختلاف مرجعياتهم الفكرية والسياسية، رغم زواج الموائمة بين حركات الإسلام السياسي والدول الغربية، لاسيَّما مع الولايات المتحدة الأمريكية، الذي تبين إخفاقه. الثورة التونسية التي فجرت ربيع الثورات العربية، جاءت بعد الأزمة الاقتصادية والمالية التي اندلعت في سنة 2008. وجاءت الثورات العربية، وفي القلب منها الثورة التونسية، بعد أن بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تفقد سيطرتها على العالم العربي، وبعد أن أدركت أن حركات الإسلام السياسي أصبحت تمثل القوة الوحيدة المنظمة وعابرة الحدود في العالم العربي، والحالة هذه توصلت إلى قناعة أنه لا يمكن استمرار السيطرة الغربية المفقودة من دون التحالف مع الحركات الإسلامية المعتدلة في العالم العربي. والنموذج التركي في ظل حكم حزب العدالة والتنمية كان يشجع الولايات المتحدة الأمريكية على إقامة مثل هذا التحالف. الانفتاح الأمريكي على الحركات الإسلامية في العالم العربي، والذي ارتقى إلى مستوى التحالف كان المأمول منه، أن تحترم حركات الإسلام السياسي هذه عملية الانتقال الديمقراطي من أجل إقرار دستور ديمقراطي وعصري، وبناء الدولة المدنية، أي الدولة الديمقراطية التعددية، وتحقيق الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية للخروج من دوامة الأزمة الاقتصادية التي تعيش فيها بلدان الربيع العربي، لاسيَّما في كل من تونس ومصر. واستند هذا التحالف الجديد بين الولايات المتحدة الأمريكية والحركات الإسلامية المعتدلة في العالم العربي إلى مرجعية التحالف الأمريكي التركي، لاسيَّما أن النموذج التركي بات يستهوي تقريبا الحركات الإسلامية المعتدلة التي استلمت السلطة في العالم العربي. هناك حقيقية ثابتة في الإستراتيجية الغربية عامة، والأمريكية خاصة، تجاه العالم العربي، أن الغرب لن يسمح للثورات العربية أن تخرج عن سيطرته. وقد أكدت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها ذلك من خلال محاولتها ترويض الإسلاميين الصاعدين إلى حكم الدول العربية على السياسة الأجنبية والاقتصادية، بدلاً من تفسيرات الشريعة. والأحزاب لإسلامية التي ستخضع لذلك سوف يتم اعتبارها «معتدلة» أما الباقي فسيظل من «المتعصبين».علماً أن الثورات العربية التي اشتعلت شرارتها الأولى في تونس في بداية عام 2011، وانطلقت لإسقاط الديكتاتوريات المدعومة من الغرب، شكلت تهديداً استراتيجياً للهيمنة الغربية، رغم أنها ركزت على القضايا الداخلية: الفساد والفقر وانعدام الحريات، وليس على الهيمنة الغربية أو الاحتلال الصهيوني لفلسطين وباقي الأراضي العربية الأخرى. بعد التداعيات الخطيرة التي شهدته مصر تتجه الولايات المتحدة الأمريكية إلى تعزيز شراكتها الاستراتيجية مع الأحزاب والنخب الليبرالية في تونس. وتندرج زيارة السيد مهدي جمعة إلى واشنطن ضمن هذا السياق، حيث نجد أن هناك تياراً قوياً داخل الإدارة الأمريكية باتت يرى أن الوسيلة الوحيدة والمناسبة لمواجهة الإسلاميين هي قيام الولايات المتحدة بدعم وتمكين الأحزاب الليبرالية والعلمانية في بلدان الربيع العربي في مقابل الأحزاب الإسلامية، رغم تميز الأحزاب الليبرالية بضعف وهشاشة بنيتها الداخلية كما في حالة تركيا - أحد أعرق الدول ذات النظام العلماني-، حيث تراجع دور الأحزاب العلمانية أمام نظيرتها الإسلامية في السنوات الأخيرة ويؤكد هذا التيار الأمريكي على ضرورة دمج الأحزاب الإسلامية «المعتدلة» في العملية السياسية - إلى جانب تقوية شوكة الأحزاب الليبرالية، يرى هذا التيار داخل الإدارة الأمريكية أن هناك حلاًّ لهذه الإشكالية يكمن في فتح الباب أمام الإسلاميين ودمجهم ومشاركتهم في العملية السياسية وقد تكون مخاطرة كبيرة، إلا أن ذلك أمر لا يمكن تجاهله؛ نظرًا لما تتمتع به هذه الأحزاب من قاعدة شعبية كبيرة، كما أن تلك الإستراتيجية أثبتت نجاحها في تركيا والجزائر، حيث أدى دمج الإسلاميين في الحياة السياسية إلى إعادة صياغة برامجهم وتبني سياسات ديمقراطية، أما سياسة الحظر والقمع ستؤدي حتمًا إلى نتائج عكسية كما حدث في مصر، وفي ضوء تلك الحقائق، تقترح الإدارة الأمريكية دمج الجماعات الإسلامية في العمل السياسي، خاصة الأجيال الجديدة لتلك الجماعات؛ لأنها الأكثر اعتدالاً وقبولاً للآخر، وكذلك وضع خطة لتحقيق الأهداف الآتية: - التركيز على الإصلاح السياسي بالتوازي مع الإصلاح التعليمي والثقافي للمجتمعات العربية، حيث إن الإصلاح السياسي لا يمكن تحقيقه بمعزل عن تطوير التعليم والنهوض بثقافة المجتمع. - دمج الإسلاميين في عملية الديمقراطية يعتبر ضرورة حتمية لرفع الرغبة التنافسية لدى الأحزاب الليبرالية لتطوير مؤسساتها من جديد، مما يؤدي أيضًا إلى تنشيط القوى السياسية المختلفة في المجتمع وخلق قدر من التنوع الحزبي أمام الناخبين مستقبلاً. - تشجيع ودفع الأنظمة العربية للاهتمام بالأجندة الاجتماعية التي تميزت فيها الجماعات الإسلامية والتي تستطيع الوصول وتحقيق خدمات إلى نحو 90% من المواطنين. - تفعيل دور الإعلام الحر في الترويج لمفهوم الديمقراطية والليبرالية وقيم الحرية والمساواة، وترى الإدارة الأمريكية أن الإعلام في تونس يتمتع بقدر كبير من الحرية التي تتيح له الضغط على الحكومة وتعبئة الشعب لتأييد الديمقراطية. - التحدي الحقيقي أمام الحكومات العربية والأحزاب العلمانية هو في كيفية أن يكون الإسلاميون أكثر تأييدًا للديمقراطية، وهذا لن يحول دون دمجهم في العملية السياسة وكذلك ربط مصالحهم بالإصلاحات السياسية. - إضافة إلى تلك الأهداف، لا بد من استثمار الانقسامات الداخلية الموجودة داخل الأحزاب الإسلامية نتيجة صراع الأجيال الدائر بين الجيل الجديد والقديم، وهو ما سيفرز حتمًا جيلاً جديدًا من الإسلاميين أكثر رغبة في المشاركة السياسية وأكثر انفتاحًا، وهو ما قد يؤثر على مستقبل الإصلاحات. ويخلص هذا التيار الأمريكي للقول إلى أنه ليس بإمكاننا الحديث عن العملية الديمقراطية أو حتى الترويج لليبرالية من دون أن نأخذ في الاعتبار تزايد تأثير الحركات الإسلامية، فالحل الآن هو كيف يمكننا أن ندفع بالإسلام المعتدل في مقابل الإسلام الراديكالي؛ لأن دمج الجناح الإصلاحي داخل الحركات الإسلامية سوف يعطي فرصة ذهبية للعلمانيين من تكوين تحالفات سياسية مع الإصلاحيين داخل الأنظمة الحاكمة . ولعل التحالف المرتقب بين حركة النهضة الإسلامية وحزب نداء تونس، عقب الانتخابات المقبلة مؤشراً حقيقياً على أن إدارة الحكم في المستقبل ستكون في إطار الشراكة بين الإسلاميين والليبراليين، في ظل استقالة اليساريين والقوميين عن دورهم التاريخي نتاج تمسكهم بالخطاب الخشبي، وبمرجعية أيديولوجيات الحرب الباردة، وعدم إفرازهم لنخب سياسية جديدة