17 سبتمبر 2025

تسجيل

حكاياتنا التي يرويها الغـرب !

18 مارس 2021

في الخطبة الرئاسية الأولى له بعد أن تولى خلافة المسلمين، وتمت له البيعة العامة في المسجد، قام الصديق أبوبكر – رضي الله عنه - فتكلم وحمد الله وأثنى عليه وقال:" أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجعَ إليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى أخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشـيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فـإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم". الشاهد من الخطبة البليغة تلك أن الصديق - رضي الله عنه - الذي تخرج من المدرسة المحمدية، ألقى خطبته وكله ثقة أنه أمام خريجي المدرسة نفسها، وبالتالي كل كلمة يلقيها ستكون مفهومة، ولن يحتاج أحدهم لكثير شروحات وتفصيلات، وهذا في العادة أمر يريح أي قائد يبعث رسائل صوتية إلى شعبه. إنّ هكذا تعامل مع تلكم النوعية من الشعوب، تفسح المجال للقائد القيام بمهامه الأصيلة، وتجعله يبدع في التخطيط والقيادة، وكله ثقة أن هذا الشعب وهو يقوم بأداء واجباته، لديه القدرة كذلك بالمراقبة والمتابعة في الوقت نفسه وبطرقه المتنوعة، ما يجعل القائد يطمئن إلى وجود من يصحح له ويقوّم أداءه أولاً بأول، في جو متبادل من الثقة والشعور بالمسؤولية. أفادتنا الخطبة كذلك إلى أهمية خُلُق التواضع في القائد، وهو ما ظهر في كلمات الصديق – رضي الله عنه – على رغم منزلته العالية عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال عنه يوماً:" أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي ". إذ على رغم تلك المنزلة التي كان عليها عند خير البشر، لم يتجبر ويتكبر ويتعالى على عباد الله، بل قال في خطبته الأولى ما يؤكد على أنه واحد منهم، لا فرق بينه وبين أي أحد منهم، إلى الدرجة أن يطلب من الناس تصحيح مساره، بقوله:".. إن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقـوّموني" ! المال مالنا والفيء فيئُنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، قام في يوم جمعة، وخطب فقال: إنما المال مالنا والفيء فيئنا، من شئنا أعطينا، ومن شئنا منعنا. فلم يرد عليه أحد، على خلاف ما كان عليه الناس في عهد الخلفاء الراشدين. فلما كانت الجمعة الثانية قال مثل مقالته، فلم يرد عليه أحد أيضاً ! فلما كانت الجمعة الثالثة قال مثل مقالته، لكن هذه المرة، قام إليه رجل ممن شهد المسجد فقال: كلا، بل المال مالنا والفيء فيئنا، ومن حال بيننا وبينه حاكمناه بأسيافنا. فلما صلى، أمر بالرجل فأدخل عليه، فأجلسه معه على كرسي الحكم، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، ثم قال: أيها الناس، إني تكلمت في أول جمعة فلم يرد عليَّ أحد، وفي الثانية فلم يرد عليَّ أحد، فلما كانت الثالثة أحياني هذا أحياه الله – وأشار إلى الرجل – وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: سيأتي قوم يتكلمون، فلا يُرد عليهم، يتقاحمون في النار تقاحم القردة ـ فخشيتُ أن يجعلني الله منهم. فلما ردّ هذا علي أحياني، أحياه الله، ورجوت أن لا يجعلني الله منهم. الشاهد من القصة هذه أيضاً، أن الناس في ذلكم الزمن، كيف كانوا وكيف كانت نظرتهم إلى الحاكم ولو كان خليفة المسلمين نفسه، وليس والياً من الولاة فحسب. إن ما جرى مع معاوية قد سبق وأن حدث مع أبي بكر وعمر بن الخطاب – رضي الله عنهما – في قصص متنوعة رصدتها كتب التاريخ الموثوقة بصورة وأخرى. تلك قصص لا تختلف كثيراً عن التي نراها اليوم في كثير من مجتمعات الغرب، حيث الجرأة في محاسبة المسؤولين ولو كان من كان. نعم قصصنا وحكاياتنا السابقة بتنا نراها في الغرب واقعاً متجسدا، على رغم أننا من يفترض الاقتداء بتلك القصص. لقد كان الصحابة الكرام والتابعون من بعدهم، لا يتأخرون لحظة في انتقاد أي أمر ليس فيه نص من القرآن، أو لم يقل به الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - حتى لو كان الأمر أو الفعل من طرف الخليفة نفسه، يواجهونه في الطريق أو المسجد أو البيت إن استدعى الأمر. وعلى رغم أن مثل تلك المشاهد والقصص لم تدم طويلاً، لكنها كافية لتأليف مناهج في القيادة والإدارة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أعجب، أنه بالمقابل كانت ردود أفعال الخلفاء يومها طبيعية جداً، لا تعصب ولا تشنج ولا نفور من المنتقدين، بل لا اعتقالات سياسية وتغييب في غياهب السجون سنوات طوال، أو قمع وتصفية، سواء كانت مادية أم معنوية.. وهكذا استمر الوضع على ذاك النهج حيناً من الزمن. لا خير فيكم إن لم تقولوها قصة ثالثة عن الفاروق عمر - رضي الله عنه – كنموذج لما كان عليه القائد وشعبه. فقد حدث وأن كان بينه ورجل كلامٌ في شيء، فقال له الرجل: اتق الله يا أمير المؤمنين ! فقال له رجل من الحاضرين: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله؟ فقال عمر: دعه فليقلها. نِعْمَ ما قال؛ لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نقبلها. لم يتم استدعاء الرجل إلى أمن الدولة لأنه انتقد الخليفة أمام الناس، ولم يتم سحبه إلى النيابة والمحاكم، بل قال ما بنفسه وعبّر عن أمر رأى ضرورة أهمية توعية وتنبيه الخليفة، بقوله اتق الله يا أمير المؤمنين. ولم يكن في ذلك التنبيه ما يسيء كما رأه الفاروق – رضي الله عنه - بل رأى في دعوته تلك أنها أقرب إلى تذكيره بالله، فهو إنسان، مثله مثل بقية الناس، يصيب ويخطئ، والتذكير بالله وضرورة اتقاء غضبه سبحانه، أمر طيب مطلوب بيننا جميعاً، الحاكم والمحكوم، وبين المحكومين أنفسهم. إن بمثل هذه النوعيات من القادة والمسؤولين، وبمثل تلك النوعيات كذلك من الشعوب، التي كانت لا تخاف في الله لومة لائم، وتقول الحق في وجه الزعيم قبل غيره، ترقى الأمم. وبمثل أولئك وصل الأولون من هذه الأمة الى ما وصلوا إليه، وبفقدان تلك النوعيات شيئاً فشيئاً، وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. مجتمعات تقدس مبدأ " نفسي نفسي" حين تكثر الخيرات، وإن جلد الزعيم ظهورها. أو مبدأ " اللهم سلّم سلّم " حين تسوء الأمور وتزداد. لا خيرات ولا هبات، بل مزيد جلد وقمع. حيث يضيع الحق بين المبدأين ويسود الباطل ويجول، وبسبب ذلك تنهار الأمم وتندثر، دون الحاجة لكثير شروحات وعميق تفصيلات، فالتاريخ يحمل بين طياته الكثير من تلك القصص والأمثلة، تبحث عمن يقرأها ويتأملها. لكن الإشكالية في قلة القراء والمتأملين، ومن هنا يقل الاتعاظ وبالتالي تتكرر الأخطاء. وهكذا هم بنو البشر إلى أن يشاء الله أمراً كان مفعولا. [email protected]