13 سبتمبر 2025

تسجيل

الاقتصاد الهجين

18 مارس 2015

عندما يتجاهل السياسيون مبادئ علم الاقتصاد تتحول برامجهم إلى كوارث، فلكي يتخذ مسؤول ما قرارات فيما يتعلق بالمسائل السياسية المهمة، فإن عليه أن يتعلّم أساسيات علم الاقتصاد. ومن ذلك أن يفهم النظريات العلمية المعروفة في هذا المجال ويطبقها على نحو متسق ومنطقي. وإذا كانت النظريات الاقتصادية تميز بسهولة بين الأنظمة الرأسمالية التنافسية وبين أنظمة التخطيط المركزي الاشتراكية، فإن الورطة التي يقع فيها بعض السياسيين أنهم يحاولون الدمج بطريقة غير منهاجية بين النوعين، على نحو يوحي بأنهم لا يفهمون أيا منها.فالكثير من "الأنظمة الفردية" تخطط لمشاريع التنمية على نحو مركزي، ولكنها تفعل ذلك لمرة واحدة فقط، إذ هي تخطط مركزيا لصالح تسليم مقدرات البلاد لمستثمر رأسمالي، فتسن القوانين التي تسهل الاستثمار وتحصن المستثمرين وتيسر لهم التحلل من التزاماتهم، وتخفف القيود على الأصول العامة التي يتم تسليمها إليهم بلا مقابل، وتمكن الشركات الأجنبية من تقليل العمالة الوطنية بدون توقيع عقوبة عليها، وتجهز البنية التحتية خدمة لأغراض المستثمرين، وتخفض الضرائب، وتحد من قدرة العمال على الإضراب، وتجرم احتجاجاتهم بكافة أشكالها، بحيث يتكون في النهاية نظام اقتصادي يقوده الاستثمار الخارجي بمباركة القوى الدولتية، التي تسخر قدراتها البيروقراطية والتنفيذية تحقيقا لمصالح لا تمتد آثارها إلى خارج دوائر النخبة الضيقة (من الدولتيين والمستثمرين) إلى عموم الشعب المستهدف افتراضيا بهذه التنمية.وكما هو واضح فإن السمة الأساسية لهذا النظام الاقتصادي الهجين هي غياب المنافسة، فإذا كانت المنافسة تشكل مخرجا للكثير من أزمات الاقتصاد الحر وتهذيبا للكثير من انحرافاته، حيث تضمن أن المستثمر لن يراوغ أو يخادع، لأنه يعلم أنه في منافسة مع آخرين معنيين مثله بتحقيق الربح، فإن الآفة الأساسية للاقتصادات المهجنة هي تخصيصها المشاريع لمستثمرين بعينهم بالأمر المباشر، على نحو يعفيهم من عبء المنافسة مع غيرهم ويرفع عن كاهلهم عبء تجويد أدائهم الاقتصادي.وكما يغيب التنافس بين المستثمرين يغيب التنافس بين الإرادات السياسية المختلفة، وذلك إما بغياب الكيانات السياسية التي تملك موازنة السلطة التنفيذية، مثل البرلمان، ومؤسسات المجتمع المدني، والإعلام الحر، وإما بتسييس هذه المؤسسات على نحو يفقدها الفاعلية والتأثير، ما يُبقي القرارات المركزية (التي تتضمن تخصيص مليارات الدولارات) بدون مراقبة أو محاسبة. إن الأنظمة الاقتصادية الهجينة تجمع أسوأ ما في النظامين الاشتراكي والرأسمالي، فمن ناحية فإنها عادة ما تسلم الطبقات الفقيرة لجشع المستثمرين، الذين يفضلون في الغالب أنماط الإنتاج كثيفة الآلات ومنخفضة الأيدي العاملة، ومن ناحية أخرى فإنها تستبعد المواطنين من عملية اتخاذ القرارات المهمة، على افتراض أنها وكيلة عنهم في تحديد الأصوب والأنفع لهم. وإذا كانت عيوب الليبرالية الاقتصادية أوضح من أن تشرح، فإن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بالتخطيط المركزي، الذي يرى البعض أنه ضروري لتحقيق التنمية في الدول الآخذة في النمو. والحقيقة أن التوجيه المركزي في غيبة كافة مؤسسات الدولة بخلاف السلطة التنفيذية لا يعد ضمانا لتحقيق النمو الاقتصادي. ومن أشهر المفكرين المعاصرين الذين ناقشوا منظومة التخطيط المركزي وأبرزوا عيوبها، الاقتصادي النمساوي فريدريك فون هايك، الذي يؤكد أن التخطيط الذي تقوده إرادة منفردة عادة ما يشكل بيئة خصبة لنمو الأفكار الشمولية. فالمخطط يعشق السلطة التي تعني إجبار الناس على تبني خياراته، والديمقراطية عادة ما تقف عائقاً بينه وبين ذلك، ولذا تكون أولى خطوات المخطط المركزي أن يقضي على الديمقراطية أو أن يفرغها من كافة معانيها. من ناحية أخرى يؤكد هايك أن المخطط المركزي عادة ما يصل إلى عكس ما يرمي إليه، إذ تنتهي خططه الطموحة لتحقيق التنمية الشاملة إلى مجموعة من الإنجازات الجزئية والعشوائية. ويذهب هايك إلى أن العوامل التي تؤدي إلى نشوء الأفكار الشمولية المتطرفة في الأنظمة مركزية التخطيط تتمثل في التبجيل المتزايد للدولة، والقبول القدري بالاتجاهات الحتمية، والتحمس للتخطيط المركزي (الذي تقوم به الدولة بالنيابة عن المجتمع).ومن جمله المأثورة في هذا الصدد: "إن السلطة التي يتمتع بها المليونير الذي أعمل لديه هي أقل بكثير من السلطة التي يمتلكها أصغر بيروقراطي يفرض سلطة الدولة الإجبارية أو القسرية". وبالعودة إلى الأنظمة الهجينة كتلك الموجودة في عالمنا العربي نجد أن هذه المشكلة تتضاعف، إذ تجتمع على المواطن السلطتان، سلطة الدولة عبر بيروقراطيتها العقيمة، وسلطة الرأسماليين الذي تختصهم الدولة بالمزايا الاستثمارية والفرص التي لا تتيحها للآخرين على نحو متساو.مشكلة أخرى تواجه التخطيط المركزي أن الدولة تحتفظ لنفسها بكافة المعلومات، فيما تبقي المواطنين على درجة عالية من الجهل. وعليه إذا كانت ثمة مشكلة في تقييم الأداء أو الآراء الاقتصادية بشكل عام، فإن ثمة مشكلة أكبر في تقييم التخطيط المركزي، وذلك لأنه إما ألا يتيح للناس أي معلومات على الإطلاق، أو أنه يتيح المعلومات التي تظهر إيجابياته دون سلبياته، ومرة أخرى تتفاقم هذه المشكلة في الأنظمة الهجينة، حيث يتحول التخطيط إلى مناسبة للحشد السياسي، ومن ثم تعرض خطط التنمية على الناس في إطار من البروباجندا السياسية، وذلك بتصوير كل ما يتم القيام به من قبل تحالف النظام والمستثمرين على أنه حكيم وحتمي. غير أن هذه الأفكار - وفقا لهايك - هي بالضبط ما ينبغي اجتنابه في المجتمع الاقتصادي الرشيد، الذي يؤمن أفراده بأن من حقهم أن يعلموا وأن يناقشوا وأن يقرروا بأنفسهم ما يتم اتخاذه من قرارات، وأولى خطوات ذلك هي الاقتناع بأن ما يقوم به الغير بالنيابة عنهم هو رمز للفشل والحماقة والبعد عن الرشادة الاقتصادية.