13 سبتمبر 2025

تسجيل

قبل أن تحكم على غيرك

18 فبراير 2021

من التوجيهات الربانية الحكيمة التي وردت في سورة الإسراء، قوله تعالى (ولا تقفُ ما ليس لك به علم، إنّ السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسؤولاً)، دعوة واضحة للتثبت والتحري والتأكد من أي معلومة تسمعها أو تراها، بمعنى آخر، لا تقل أو تكتب شيئاً لست واثقاً منه تمام الثقة، فإن قلته أو كتبته صرت مسؤولاً عنه، وبالتالي ستحاسب عليه، ربما في الدنيا قبل الآخرة، هذه خلاصة موضوع اليوم، ولمن أحب الاستزادة، فليتابع معي المقال لطفاً. إن القرآن الكريم يربي أتباعه على استخدام أدوات المعرفة الأساسية، وهي المذكورة في الآية السابقة: السمع والبصر، وعرض ما يتم سماعه أو رؤيته بعد ذلك على العقل، لماذا ؟ لأجل تمحيصه والتثبت منه قبل قبوله والعمل به والتعرض لنتائجه، وهذا تفعيل وتعزيز لسلوك التثبت والتحري في تعاملاتنا البشرية، الذي ربما يمارسه البعض في علاقاته الإنسانية، والتذكير ها هنا بهذا السلوك، إنما تعزيز له وبيان أهميته. الجزء المراد بيانه ضمن سلوك التثبت والتحري، هو ذاك السلوك الذي يتبعه كثير من الناس في تعاملاتهم مع الآخرين، والمتمثل في الحكم على الغير وفق ما يراه أو يعتقده آخرون، أو التعامل مع شخص وفق أحكام سابقة عنه، بغض النظر عن ماهية وطبيعة تلك الأحكام، إيجابية كانت أم سلبية. وضمن هذا الإطار، هناك حقيقة مهمة لابد من الإشارة إليها قبل الدخول في تفاصيل الموضوع. في هذه الحياة لا تجد إنساناً بلا أخطاء، إن أي أحد منا عرضة للوقوع في خطأ أو جملة أخطاء، وليس في ذلك شيء باعتبار أن الإنسان خطاء، وخير الخطائين التوابون، لا شيء في أن تخطئ، لكن أن يتكرر منك الخطأ مرات ومرات دون الاعتبار من السابق أو التجارب الماضية، ففي هذا أشياء وأشياء، لكن ليس هذا هو موضوع اليوم، وإن كان له صلة به. إن من الظلم والخطأ الذي يرتكبه أحدنا تجاه الآخر، هو التعامل معه وفق أحكام مسبقة تصل عنه من آخرين تعاملوا معه في مواقف ووقائع، نعم، قد تعتبر تلك الأحكام التي جاءتك من آخرين عنه بمثابة نصائح مجربين، ولا شيء في أن يستعين أحدنا بالغير في مثل هذه المواقف ويستشير ويسأل، لكن بشرط ألا يكون قصده من الاستشارة بناء حكم أو موقف منه والتصرف معه وفق ذلك. لا، هذا هو ظلم بيّن وهذا الذي أعنيه، وسأبين لك وجه الظلم في المسألة. أنت حين تطلب معلومات من الغير عن إنسان ما قادته الظروف إلى التعامل معك، كأن يكون موظفا جديدا سيعمل معك أو تحت إمرتك، أو زميل مهمة معينة أو ما شابه، فإن طلبك لتلك المعلومات لابد أن يكون نوعاً من الإعانة على مواقف وسلوكيات عملية أنت ستقوم بها بنفسك معه، بمعنى أوضح، تلك المعلومات التي جمعتها ستقوم بنفسك بالتعامل معها، والعمل بنفسك وبطريقتك وآلياتك الخاصة في التحري والتثبت، لتأكيد صحتها وتعزيزها، أو تغييرها وبناء صورة أخرى جديدة للشخص ولكن وفق حساباتك أنت، وطريقة تفكيرك أنت وأسلوب حياتك أنت وحدك فقط لا غيرك. من هنا احرص دوماً ألا تجعل أحداً يفكر نيابة عنك في الآخرين، بل لا تستسهل أمور الأحكام على الغير وتقبل بالجاهزة منها دون تمحيص وتدقيق منك، فإنك مسؤول عما تسمع - كما في الآية - بل لتكن لك مقاييسك ومعاييرك الخاصة في بناء أو رسم صور ذهنية للغير. جاء رجل إلى الفاروق عمر رضي الله عنه، ومعه شاهد. قال: ائت بمن يعرفك، فجاء برجل، قال له عمر: هل تزكيه بناء على ما عرفت عنه؟ قال: نعم فقال عمر: وكيف عرفته؟ - هل جاورته المجاورة التي تعرف بها مدخله، ومخرجه؟ قال: لا. - هل عاملته بالدينار والدرهم الذي بهما تعرف أمانة الرجال؟ قال: لا. - هل سافرت معه السفر الذي يكشف عن أخلاق الرجال؟ قال: لا. قال: فلعلك رأيته في المسجد راكعاً وساجداً، فجئتَ تزكيه. قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال عمر: اذهب، فأنت لا تعرفه، ويا رجل ائتني برجل يعرفك فهذا لا يعرفك. إذن هو نوع من الخطايا والمعايب في علاقات البشر بين بعضهم البعض، أن يقوم أحدهم بالحكم على الغير وفق مناظير الآخرين. وهو كذلك نوع من التهاون البين وعدم احترام للآخر، فما تراه مثلاً في شخص ما، قد لا يكون بالضرورة هو نفس ما يراه غيرك وبنفس الزوايا والألوان، وبالمثل، ما تراه في أي أمر دنيوي آخر أنه شنيع، قد لا يكون بالضرورة كذلك أو قد لا يتفق معك غيرك، وهكذا. قيام بعضنا بالحكم على الغير وفق منظور آخرين، يعني أن نرى بعيون غيرنا، ونسمع بآذانهم، وبالتالي لا شيء يمنع من الوقوع في إثم الحكم على الغير، بناء على معطيات غيرنا، دون بذل الجهد اللازم في البحث والاستقصاء وغيرها من طرق جمع المعلومات. وهناك الكثير من النماذج في الحياة لا يمكننا سردها ها هنا، نتسرع خلالها في الحكم على شيء ما قبل أن نتفهمه من كافة جوانبه، وتبعاً لذلك تحدث من المشكلات وسوء الفهم الكثير الكثير. هذا الأمر يتسع نطاقه ليشمل الشعوب والدول، إذ لا يمكنك أن تحكم على شعب ما أو أمة من الأمم وثقافاتها وعلومها وأخلاقياتها، دون أن تكون على إلمام كاف بها، فإن فعلت وتسرعت في الحكم، تكون ارتكبت ذات الخطأ المشار إليه قبل قليل في التعامل مع الأفراد. حاول كخلاصة للموضوع، أن تتجنب الحكم على شعب ما في أخلاقياته وأفعاله أو سلوكياته، كما تفعل مع الأفراد، قبل أن تعاشره وتخالطه بنفسك وتتعرف على تفاصيل حياته ويومياته وظروفه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها، وحاول كذلك أن تدفع عن نفسك اغراءات الأحكام الجاهزة أو المعلبة من لدن الغير، التي تأتيك دون كثير عناء أو جهد غالباً. هذا منطق غير سوي، لا أخلاقاً ولا شرعا، بل فيه ظلم كبير قد لا تشعر به، إلا إذا وقعت أنت ضحية ذلك، يأخذ الغير أحكامهم تجاهك بناء على أحكام مسبقة من الآخرين. فهل ترضاه لنفسك؟ سؤال جدير بالتفكر والتأمل. [email protected]