14 سبتمبر 2025

تسجيل

الإسلاميون والرهان على المجتمع (2)

18 فبراير 2015

تعرضنا في المقال السابق لوجهة النظر التي تذهب إلى أن حركات الإسلام السياسي لم يعد بمقدورها لا إصلاح ولا التصالح مع الدولة الحديثة، وأن فشل التلاقي بين قوى الإسلام السياسي والدولة في أعقاب الموجة الأولى من موجات الربيع العربي لم يكن فقط بفعل مؤامرات الدولة العميقة، ولا ضغوط القوى العلمانية، ولا يرجع إلى الدور الخارجي، الذي يرى في وصول الإسلاميين إلى الحكم تهديدا لمصالحه، كما لم يكن الانقلاب العسكري هو الخطر الأهم، ولكن كان الأخطر من كل ما سبق هو فشل قوى الإسلام السياسي في كسب المجتمع إلى جانبها. ونستكمل في هذا المقال هذه الرؤية التي تركز على المجتمع، وتنتقد تجربة الإسلام السياسي لكونها فقدت بوصلتها حينما ركزت على الدولة أكثر من المجتمع، فدخلت لعبة السياسة من البوابة الخطأ.فمع التسليم بتأثير كافة العناصر السابقة، يرى أصحاب هذه الرؤية أنه لابد من الاعتراف بأن قوى الإسلام السياسي كانت تعاني مشكلات حقيقية في التعاطي مع فكرة الدولة. وكان طوق النجاة الذي يمكن أن تتعلق به لحين تسوية هذه المشكلات هو المجتمع، ولكنها لم ترغب في الاستثمار فيه على نحو حقيقي، وظلت على محاولتها اللاهثة للتشبث بأهداب المشروع العلماني للدولة، ما جعل منها بديلا غير مقنع في أعين مناصريها قبل منافسيها.لقد حاول الإسلاميون مرارا وتكرارا أن يظهروا انفتاحهم على مفاهيم الدولة الحديثة وتقبلهم لمؤسساتها وقواعدها. وفي هذا الصدد أصدرت جماعة الإخوان المسلمين، كبرى حركات الإسلام السياسي، بيانا اعتبرت فيه أن "الدولة المدنية" لا تتعارض مع الإسلام، "فالدولة الحديثة بما فيها من آليات ونظم وقوانين وأجهزة، إذا لم يكن فيها ما يتعارض مع ثوابت الإسلام القطعية، فلا يوجد ما يمنع من تطويرها والاستفادة منها، كمنتج إنساني عام".والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل استطاع الإسلاميون تطويع مؤسسات الدولة الحديثة، دون أن ينحرفوا إلى عكس ما يستهدفونه. تبدو الإجابة عن هذا السؤال أقرب إلى النفي، فمن الواضح أن الدولة الحديثة قد فرضت قواعدها، فلم تنجح أيّ من الأنظمة الموصوفة بالإسلامية في أن تنتج نسخة منقحة من نظام الدولة العلمانية، و"ظلت الدولة الحديثة هي القالب المفضل عند الإسلاميين بكافة أطيافهم"، ولم ينجحوا في الانتقال بها إلى الشكل النموذجي الذي كانوا يعدون به، كما لم ينجحوا - وهذا هو الأهم - في إقناع مجتمعاتهم بأنهم قادرون على فعل ذلك.ومتى تم التسليم بهذه الحقائق يصبح الأولى - من وجهة نظر الإصلاحيين المعاصرين - هو التوجه إلى المجتمع لإنتاج الدولة من داخله، وليس التوجه إلى الدولة لإصلاح المجتمع من خلالها، وذلك من خلال إعادة بناء الأساس القيمي للمجتمع، وإقناع أفراده بجدوى الطرح الإسلامي، وإبراز آفات الحداثة وآفات منتوجاتها العلمانية. من المهم أيضا، وفقا لهؤلاء، العمل على "إعادة بناء التصورات الاجتماعية الخاصة بالحرية الشخصية، وانتزاع عقلية الوهن والقبول بالاستبداد من الشعوب التي عاشرت الظلم لفترات طويلة، واستبطنت ذلك في نُظمها الثقافية وتنظيماتها الاجتماعية والمجتمعية والحركية، بل والعلمية". ويؤكد هؤلاء على أن التركيز على الاجتماعي ليس انصرافا عن السياسي أو هروبا منه ولكنه البديل الأوقع لإعادة إنتاج الدولة من أسفل إلى أعلى، بدلاً من الإصرار على الحلول الفوقية ذات الضريبة المرتفعة.من ناحية أخرى فإن قوة المجتمع لا تمثل خصما من قوة الدولة ولكن إضافة لها، خاصة أنها تجعل الدولة كيانا مركبا لا يمكن التحكم فيه فقط من خلال التحكم في قمة هرمه السياسي. ويؤكد المصلحون المعاصرون أن استقلالية المجتمع في الخبرة الإسلامية كانت تصعب مهمة أي معتد أو محتل، حيث كان عليه في هذه الحالة أن يسيطر على مجتمع مركب وليس مجرد نظام سياسي محدود. ويطرحون في هذا الصدد مثال الحملة الفرنسية على مصر 1898، فهذه لم تدم لأكثر من ثلاث سنوات بفعل الحيوية التي كان عليها المجتمع، والذي جعلته في حالة ثورة مستمرة على المحتل، الذي انتهى به الحال إلى الانسحاب السريع نسبياً أمام المجتمع الثائر.ولكن بتعاظم قوة الدولة أثناء حكم الأسرة العلوية (محمد علي وأبنائه)، تقلصت قدرات المجتمع على نحو هائل، وأصبحت السلطة السياسية هي مركز القوة الوحيد، بحيث إن الإطاحة بها أو السيطرة عليها، كان يعني إخضاع الدولة بأكملها. وهذا هو ما حدث عام 1882، عندما احتلت بريطانيا مصر بسهولة بفعل نجاحها في احتواء نظامها السياسي، في الوقت الذي لم يكن المجتمع فيه في أحسن أحواله، ما أدى إلى أن يستمر الاحتلال هذه المرة لسبعين سنة.ما الذي يعنيه ذلك، يعني ذلك أن تيارات الإسلام السياسي عليها أن تعيد توجيه بوصلتها ناحية المجتمع، لإيجاد الحاضنة الطبيعية لها، فوفقا لمبدأ الميزة النسبية لآدم سميث، فإن على الإسلاميين أن يستثمروا فيما يجيدونه وما يتميزون فيه، أي في المساحة الدينية، وهذه جمهورها الرئيسي هو المجتمع، لكن إذا انصرفوا عما يجيدونه إلى ما لا يجيدونه، أي الدولة، فقد يخسرون الدولة والمجتمع معا. للمزيد يراجع كتاب، وائل حلاق، الدولة المستحيلة، ودراسات هبة رؤوف عزت، من الدولة إلى التجديد.