01 أكتوبر 2025
تسجيللقد أُبتذل محمود درويش وانتهى الأمر! الشاعر العظيم الذي حلّق في نص القصيدة ورفعها إلى أفق مُبهر. وليّن الحرف وأنتج ما أنتج من روائع صار يُتمسح به من قبل من لا يفقه من شعره شيئاً. تحول شعره إلى مقولات يرددها منافقون سياسيون. أو جهلة دهماء. أو تجار طماع. ولأنه كان ولا زال قامة فارعة الحضور يتبارى الكل في إظهار القرب إلى ذكراه وتراثه وشعره. شعره الرهيف المنسوج بعمق جواني ورمزية مركبة أصبح يُرى مكتوبا بخطوط رديئة على واجهة بقالة هنا. أو خلفية سيارة يقودها سائق ارعن. أو يتبجح باقتباسه سياسي مكروه. لقد أُبتذل محمود درويش وأسقطه من عليائه "الدهماء" وصار "مشاعاً" – هذا ما يقوله كثير من النخبة الآن في فلسطين وخارجها بتحسر تملؤه مرارة. يشيرون إلى كل مظاهر "المشاعية" ويعددون الأمثلة على الابتذال. تجار وشركات لا هم لها إلا مراكمة الربح تراها تستخدم كلمات من نصوصه. ومؤسسات رسمية تحاول مداراة فشلها السياسي أو الخدماتي بامتشاق بيت شعر له تُصّدّر به أوراقها وتخفي فشلها أمام الناس والمواطنين وراء ما قاله الشاعر يوما ما.يُشير المُتحسرون كثيرا وتكرارا إلى المقولة الشعرية الأوسع انتشارا وابتذالا. برأيهم. والتي صارت تُرى في كل مكان. وتسمع على كل لسان. مطرزة على واجهة كل شيء: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة". "النخبة" العتيدة صارت تشعر بالبؤس والنقمة إزاء هذه الكلمات العنقائية التي تبارز الموت وتحشد الرغبة الجماعية في الحياة عند شعب مقموع من قبل محتل عنصري. لماذا؟ لأنها "ابتذلت" وصارت في كل مكان! يشير المتحسرون النخبويون إلى نصوص شعرية أخرى أو اقتباسات أُنزلت من عليائها لتدور في الشوارع ومع الناس العاديين. قصيدته الغزلية الثرية بالصور والإيحاءات الرغبوية "درس في فن الانتظار" صارت مكتوبة على طاولات المطاعم. وعلى اقداح الشاي. ومقابض "الاراغيل"! الحلم الذي يدغدغ خيال كل شاعر في وصول شعره إلى الناس أيا ما كانت خلفياتهم الثقافية. وأن يُتلى ويُكتب في كل مكان صار في رأي جزء عريض من النخبة التي تدعي امتلاك محمود درويش "ابتذالا"!في بدايات شعره في الستينات كتب درويش نفسه. في "أوراق الزيتون". منتقدا نخبوية الشعر وانقطاعه عن الناس العاديين وقال في قصيدة مشهورة عنوانها "عن الشعر": "قصائدنا بلا لون. بلا طعم. بلا صوت... إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت... وإن لم يفهم البُسطاء معانيها فأولى أن نذريها. ونخلد نحن للصمت". هكذا كان الوعي الأولي والرسالي لدور الشعر عند درويش في تلك المرحلة. وهو وعي تجاوزه في مراحل لاحقة حيث ابتعد شعره عن إدراك "البُسطا" وتعقدت حمولاته الرمزية. وفي الرحلة الطويلة التي انخرط فيها درويش انتقل من القناعة الرسالية المباشرة لدور الشعر إلى مستوى أكثر تعقيدا وتركيبا إذ توتر وتشظى بين هم إبقاء شعره نضاليا ورساليا مفهوما لكل القراء والبسطاء. وهمّ الاستجابة لغواية الشعر وذاتيتها المفرطة وسماواتها اللانهائية. عبر هو ذاته عن ذلك التشظي والتوتر الدائم في لقاءاته وفي أشعاره أيضا. مما أضاف بعدا معاناة لا تنقصه الملحمية إلى ما أبدع.حلق درويش بعيدا عن "البسطاء" وكتب شعرا معقدا استغلق في بعض جوانبه حتى على النخبة التي تدعي امتلاكه الآن. وتريد أن تصدر حظر تجول على البسطاء الذين "ينتهكون" دروب شعره ويتجولون في أبياتها وظلالها من دون تقدير عميق لكنهها. خاض تحديا ومغامرة بالغة في الخطورة جوهرها حمل قراءه. النخبة والبسطا. على مرافقته في متاهات رحلته الشعرية. وتعقيداتها. ورمزيتها. وصعوبتها. والتخلي عن مباشرتها الأولى. ورساليتها الصادمة. ولم يكن لنا جميعا القدرة على مجاراة سباقه التراجيدي مع الزمن والموت والقلق الوجودي العميق والرغبة الانتحارية للوصول إلى مرافئ "الشعر الصافي" كما كان يقول. لهث كثيرون في تلك الرحلة الأوديسية في الشعر والوطن والحب والأنسنة والفلسفة ومبارزة الموت. وكل منهم توقف عند محطة من محطاتها. بهره نص هنا. أو قصيدة هناك. فظل هناك يتأمل اكتشافه. كل مُكتشف لسر من أسرار الشعر الدرويشي أحس بشعور غريب بأنانية الامتلاك والاستحواذ. كأن الشاعر صار ملك القارئ الذي فكك شفره الرمز الشعري. بعد طول عناء. فكيف إذن يأتي بعد كل ذلك مالك بقالة ما. أو سائق تكسي. ليخط على جدار بقالته المتهالك. أو باب سيارته المهترئ ذلك النص الشعري الثمين المحمل بالأسرار. هكذا وببساطة؟ليس هناك أي حاجة للتحسر والندب واللطم على "ابتذال" محمود درويش واستخدامه من قبل "اللي بسوى والي ما بسواش!". هذه الحالة الدرويشية العامة وترديد الجميع "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" هي ديمومة حياة الشاعر نفسه وانتصاره على الموت حتى بعد مماته. هي الحلم والأمنية التي يشتهيها كل شاعر وكاتب. التحسر والندب واللطم تكون مشروعة لو حل الموت في جسد الشاعر وحل في إرثه وشعره أيضاً ولم يترك وراءه سوى نسيانه. والمفارقة الكبيرة أن ثقافة التحسر والتأوه تثير النقمة والسخرية في آن معاً. تخيلوا لو شطبت كل الأشعار والاقتباسات الدرويشية التي تثير حنق النخبة الاحكتارية لدرويش وحل بدلا منها مقاطع لأغان رخيصة لهيفاء وهبي أو نانسي عجرم؟ عندها سوف تشتغل ثقافة التحسر والتأوه لتندب الحاضر والناس والشعب والانحطاط الثقافي الذي لا يلتفت للشعر والحكمة والقراءة وينساق وراء أغان هابطة. في الحقيقة يمكن القول أن الناس تحيروا في شأن "النخبة"! إذا أحبوا محمود درويش بطريقتهم واقتبسوه وغنوا معه و "ابتذلوه" فإن ذلك يثير غضب النخبة الكريمة. وإذا ابتعدوا عنه وخافوا من غموض شعره في "درس الانتظار" ورددوا عوضا عنه شعرا غزليا رديئا يتحدث عن الأثداء والأرداف فإن النخبة الكريمة سوف تشتم انحطاط ثقافة الشعب وابتعادهم عن درويش! لو كتب الناس بعضا من نصوص أغاني شعبان عبد الرحيم على واجهات محلاتهم. لتعالت أصوات النخبة تحسرا مقارنة شعوبنا المُنحطة مع شعوب العالم المتحضرة. ولقالوا انظر إلينا وانظر إلى البشر المحترمين الذين. مثلاً. ينسخون الشعر الراقي في محطات المترو في باريس؟ يحتار الناس في أمر النخبة الكريمة كيف تشير إلى رقي الفرنسيين عندما "يبتذلون" شعرهم وشعرائهم. والى انحطاطنا عندما نفعل الأمر نفسه؟ لكن الشيء الجميل في كل ذلك يبقى في صورة عنيدة ضد النخبة لسائق تكسي أشعث أغبر. يسوق بلا أدنى رعاية لقانون سير. يطل برأسه وربما نصف جسمه من شباك سيارته. يدخن سيجارته برعونة. ويصيح على صديق مار على الرصيف. وصوت غناء من داخل السيارة يرنم "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"!