17 سبتمبر 2025
تسجيلمنذ أن أجرى رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان عملية جراحية في الجهاز الهضمي في 25 نوفمبر 2011 ومن ثم العملية الاستكمالية الثانية قبل أيام تركز عبء التحركات الخارجية على وزير الخارجية أحمد داود أوغلو الذي بات "المتحرك" الرسمي باسم تركيا. ولا يخفى أن داود أوغلو أهلٌ لتحمل هذه الأعباء فهو ليس فقط لا يريح سفراء تركيا بل يكاد لا يريح تركيا من كثافة جهده وحيويته. وفي هذا الإطار كانت زيارته إلى الولايات المتحدة في مطلع الأسبوع الحالي ولقاءاته المكثفة والمطولة مع جميع المسؤولين الأمريكيين باستثناء الرئيس باراك أوباما. توقيت زيارة داود أوغلو كان على وقع التطورات في سوريا. روسيا والصين استخدمتا الفيتو في مجلس الأمن ضد قرار يريان أنه سيفتح الطريق أمام التدخل العسكري في سوريا مهما كانت عباراته ملطفة وبذلك انسدت سبل التحرك ضد لنظام السوري عبر قرار دولي من أعلى سلطة أممية. لكن الهزيمة التي ألحقتها روسيا والصين بالغرب ومن معه لم توقف المحاولات لوقف حملة النظام على المعارضة وإيجاد السبل للتخلص من الرئيس السوري ونظامه. وتبدو تركيا معنية أكثر من غيرها بجهود إسقاط النظام نظرا للخطوات البعيدة التي ذهبت فيه في التعامل مع الوضع السوري وكانت في واجهة الحملات على دمشق. فهي منذ البداية كانت السباقة إلى احتضان المعارضة السورية ولاسيما الإخوان المسلمين ثم إلى تنظيمهم في "المجلس الوطني السوري" الذي أعلن من إسطنبول. وهي أول من احتضن عناصر عسكرية سورية منشقة ما لبثت أن انتظمت في ما يسمى بـ "جيش سوريا الحرة" مع توفير الملاذ والتسليح لهم والإمكانيات لهم. كما كانت تركيا أول من فرض عقوبات اقتصادية على سوريا وإلغاء اتفاقيات وما إلى ذلك. وبما أن جامعة الدول العربية تعكس الضعف العربي العام فقد كانت تركيا هي "مركز إنتاج" الأفكار للضغط على النظام السوري. واليوم بعد انهيار مهمة بعثة المراقبين العرب في سوريا كما إحباط القرار الخاص بسوريا عبر الفيتو الروسي والصيني كانت من "مهام" تركيا أن تبتكر أفكارا لمواصلة الضغوط على سوريا. ذهب داود أوغلو إلى واشنطن في مهمة تعاكس واقع العلاقات التركية الأمريكية. الإدارة الأمريكية رغم مناصبتها العداء للنظام السوري لكنها أكثر تفهما للمصالح الروسية والصينية في العالم. تحاول واشنطن الضغط هنا وهناك على روسيا أو الصين لكنها عندما ترى بأم العين وتلمس مباشرة أن موسكو وبكين سيمضيان إلى النهاية للدفاع عن مصالحهما،أو عن ما تبقى من مصالحهما، في الشرق الأوسط فإنها تنحني للعاصفة وتعرف أن العالم ليس حكرا عليها. لا تستطيع واشنطن أن تمضي إلى مواجهة مع القوتين الكبريين أعلاه في كل قضية.والمثال الكوري الشمالي المحمي من الصين ومن روسيا مثال على ذلك. تنقل بعض الكتابات التركية عن "انقلاب الصورة" في العلاقات التركية الأمريكية.كانت واشنطن هي التي تضغط على أنقرة في السنوات الأخيرة بشأن تغيير موقفها من بعض الملفات.اليوم أنقرة هي التي تحاول الضغط على واشنطن في الملف السوري تحديدا. تفسير ذلك ليس تراجع واشنطن عن هدف إسقاط النظام في سوريا فهو قائم دائما لكن مستوى التعبئة لذلك تتفاوت من مرحلة إلى أخرى تبعا للظروف فيما أنقرة لا تهدأ بعدما وضعت كل أوراقها على الطاولة ورفعت منذ وقت طويل: يا كل شيء يا لا شيء.. وهو ما يفسر "عدم الواقعية" التركية في التعامل مع الملف السوري تحديدا بخلاف البراغماتية المعروفة عن طريقة تعامل الأمريكيين مع القضايا والمشكلات. ولا شك أن الملف السوري يضيف خبرة كبيرة جدا إلى طريقة تطوير أداء الدبلوماسية التركية والاستفادة من الدروس التي فرضتها وأولها أن العلاقات الدولية تحكمها المصالح ويجب أن تؤخذ في الاعتبار والتعامل معها بواقعية وليس على الطريقة اللبنانية "عنزة ولو طارت".. وزيارة داود أوغلو إلى واشنطن يفترض أن تقدم مثل هذا الدرس إلى أنقرة.