13 سبتمبر 2025

تسجيل

الكيل بمكيالين والاستغلال السياسي للإرهاب

18 يناير 2015

المتتبع اليوم لما يجري في دولة بحجم فرنسا وتاريخها ووزنها على الساحة الدولية يلاحظ العنصرية والإقصاء والتهميش والفشل الكبير في عملية إدماج الجاليات المختلفة التي تعيش على أراضيها، فرنسا عجزت عبر عقود من الزمن في إدماج الجيل الثاني والثالث من أبناء المهاجرين والاعتراف بالجميل الذي قدمه أبناء مستعمراتها في إفريقيا وأرجاء أخرى من العالم في عملية تحريرها من النازية وفي عملية البناء والتشييد، وهم المساواة وواقع التمييز يعكس أطروحة منظر الإمبريالية الفرنسي "جول فيري" الذي قسم الشعوب والأمم إلى شعوب متحضرة ومتفوقة خُلقت لتقود شعوبا وأمما أخرى متخلفة وجاهلة وغير قادرة على إدارة وحكم نفسها بنفسها. العملية الإرهابية التي نفذها الأخوان كواشي هي عملية تعكس فشل فرنسا في احتواء التهميش والبطالة والعنصرية ضد كل من يعيش في فرنسا، العملية الإرهابية التي عاشتها فرنسا مؤخرا تعكس أزمة ضمير وأزمة في العلاقات بين الشعوب والأمم والديانات والحضارات، فرغم التطور المادي والتكنولوجي الذي شهدته البشرية في العقود الأخيرة مازالت المنظومة الدولية تعاني من غياب التسامح والتفاهم والحوار واحترام الآخر بغض النظر عن عرقه ولونه ودينه ومعتقداته. الإرهاب مرض مزمن يختفي ثم يظهر فجأة ومادامت فرنسا لم تجرؤ على مواجهة المشكلة بطريقة موضوعية ومنهجية ومسؤولة، فالإرهاب سيبقى وللأبد مادام أن أسبابه قائمة وموجودة، ففرنسا الرسمية لم تحدد معالم واضحة للتعامل مع مشكلة إدماج الجاليات التي تعيش على أرضها خاصة أن الشابين اللذين نفذا عملية شارلي إيبدو هما من أبناء فرنسا، وُلدا فيها ودرسا في مؤسساتها التعليمية. البعض من شباب الجاليات يمثل الجيل الثاني والثالث لمهاجرين شيدوا أمجاد فرنسا بعرق جبينهم وبتضحياتهم الجسام. فهناك جدال كبير في الأوساط السياسية الفرنسية وأوساط صناع القرار، فمن جهة هناك اليمين الذي يطالب بالهجرة المختارة والاستبعاد المنظم للأشخاص الذين لا يتوفرون على وثائق شرعية، ومن جهة أخرى هناك اليسار الذي يرى أنه بإمكان فرنسا الاستفادة من الهجرة. وبين هذا وذاك يدرك الملاحظ أن فرنسا لا تؤمن بشعاراتها وببعض المبادئ التي تقوم عليها حيث إن هناك فجوة كبيرة جدا بين شعار المساواة والعدالة والإخاء وواقع التمييز والتهميش الذي تعاني منه الجاليات في فرنسا. يعيش في فرنسا اليوم أكثر من خمسة ملايين مسلم وأكثر من أربعة ملايين من السود وأكثر من أربعة ملايين عربي. لكن هذا التنوع لا يعني الكثير لفرنسا الرسمية التي تنظر لهذه الجاليات والأقليات بعين الازدراء والاحتقار والتهميش والتمييز المنظم. "جون ماري لوبان" يرى أن هذه الجاليات تشكل خطرا على فرنسا وهي سبب الأمراض الاجتماعية والبطالة، والجرائم وانتشار المخدرات، فواقع فرنسا يقول إن هذا البلد بلد ملون ومتعدد الأعراق والأقليات والثقافات والديانات، لكن فرنسا الجمهورية الرسمية لا تؤمن بهذا الواقع ومازالت تعيش على غطرستها وعنصريتها وعملية تهميشها للآخر.على عكس العديد من الدول المتقدمة والتي تعيش فيها شعوب من مختلف الأجناس والأعراق والديانات (الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا، أستراليا، نيوزيلندا، كندا،..إلخ) فشلت فرنسا منذ أكثر من قرن من الزمن في إدماج وصهر هذه الجاليات في الجمهورية الفرنسية. ومازالت فرنسا الرسمية تتخبط في أيديولوجية الإقصاء والتهميش وعدم الاعتراف بالآخر مهما كانت الظروف والاعتبارات فالوثائق الرسمية تعترف بفرنسية ملايين المهاجرين من عرب وأفارقة ومسلمين، لكن فرنسا الرسمية تعتبر هذه الفئة غير فرنسية كليا وتبقى من الدرجة الثانية أو الثالثة، والأخطر في هذه القضية هو النخبة المثقفة الفرنسية والمفكرون الفرنسيون الذين يصرون على التفوق العرقي والثقافي الفرنسي ماعدا قلة قليلة من اليسار التي تحاول بكل ما أُتيت من قوة تصحيح هذه النظرة لكن دون جدوى. فرنسا الجمهورية الرسمية يجب أن تعترف بالأمر الواقع ويجب أن تعيش على غرار الشعوب المتطورة والمتحضرة والتي تؤمن بحوار الثقافات والديانات والحضارات والتفاهم واحترام مختلف الشعوب والأمم بغض النظر عن اللون والدين والعرق والأصل، التهميش والإقصاء والظروف الصعبة التي تعيشها الجاليات المختلفة هي البذور التي تنبت الإرهاب وتجعل من شعارات الديمقراطية والحرية والمساواة شعارات جوفاء. فمعايير الجمهورية متناقضة ومتضاربة فمن جهة تدافع الجمهورية الفرنسية عن الرسوم المسيئة للرسول باسم حرية التعبير وفي الوقت نفسه تحاكم رجاء جارودي وتودعه السجن لأنه كتب كتابا يسرد فيه الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل ويشكك في المحرقة. جمهورية فرنسا أصدرت قانونا يحاكم بموجبه كل من يشكك في المحرقة. أين هي حرية التعبير في كل هذا؟ وأين هي حرية التعبير عندما تم تسريح صحفي بجريدة شارلي إيبدو نفسها عندما تناول موضوع اعتناق ابن ساركوزي اليهودية، أليس هذا مصادرة لحرية الفكر والتعبير والصحافة؟ ماذا عن القانون الجديد الذي جاء مباشرة بعد الاعتداء على صحيفة شارلي إيبدو والذي يجرم كل من يبرر الإرهاب. أين هي حرية التعبير؟ وأين هي حرية الرأي؟ فهناك تناقض صارخ في النظر إلى الأشياء والكيل بمكيالين. مسيرة الجمهورية يوم الأحد بباريس كانت عملية علاقات عامة بامتياز أستغلها الرئيس فرنسوا هولاند للرفع من أسهم شعبيته التي انخفضت إلى أدنى مستوياتها. فمن الأجدر لفرنسا بدلا من المسيرات أن تراجع تاريخ فشلها الكبير والطويل في إدماج الجاليات المختلفة التي تعيش على أراضيها. فغادة العملية الإرهابية ظهرت مشاكل كبيرة جدا في مدارس فرنسا تمثلت في الانقسام الكبير في النظر إلى قضية شارلي إيبدو حيث عبر الكثير من التلاميذ عن استيائهم للتعامل الفرنسي الرسمي مع حرية التعبير التي تسيء لمعتقدات وديانات الآخرين ومصادرتها أحيانا أخرى باسم الحفاظ على المقدسات والأمن والاستقرار. من جهة أخرى نلاحظ انزلاق الإعلام الفرنسي برمته وبمختلف أطيافه نحو التهويل والتضخيم والاستغلال السياسي للحادثة دون التركيز على الأسباب وفشل السلطات الفرنسية في إدماج مختلف الجاليات والأجناس التي تعيش على أراضيها حيث إن بذور التطرف والإرهاب تنتشر في الأحياء الفقيرة التي تؤوي مئات الآلاف من المغاربة والأفارقة والمسلمين. أين هي فرنسا وأوروبا من 5000 شاب غادروا أوروبا للجهاد في صفوف القاعدة وداعش وأين هي فرنسا من أكثر من 500 هجوم نفذ في الأيام الأخيرة على المساجد وضد الجالية المسلمة في فرنسا. حادثة شارلي إيبدو أكبر بكثير من مسيرة الجمهورية بل هي عملية تتطلب من فرنسا مراجعة سياساتها وبرامجها العديدة والمختلفة لإدماج الجاليات والأقليات والتعامل مع الدين الإسلامي الذي يعتبر الديانة الثانية في فرنسا والذي ما فتئ ينتشر يوما بعد يوم أمام تراجع الديانات الأخرى وتنامي الإسلاموفوبيا التي قد تتسبب في انتشار ردود أفعال تكون عواقبها وخيمة على الجميع.