02 نوفمبر 2025
تسجيلشكلت أزمة قضية الفساد التي انفجرت في 17 ديسمبر الماضي بداية مرحلة جديدة من الحياة السياسية التركية.فللمرة الأولى منذ أكثر من عشر سنوات ينفجر الخلاف بين أطراف الصف الواحد الإسلامي الذين شكلوا صمام أمان للاستقرار ولاستمرار حزب العدالة والتنمية في السلطة كل هذه المدة.ولاشك أن النظرة إلى التطورات وأسباب الخلاف تختلف من طرف إلى آخر. فجماعة فتح الله غولين ترى أن سعي رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان إلى إغلاق المدارس المسائية هي خطوة أولى على طريق تصفية الجماعة في حقول تأثيرها ومنها القطاع التعليمي. ولا تجد الجماعة تفسيرا لذلك سوى رغبة أردوغان في التفرد تماما بالسلطة بعدما باتت الظروف متوفرة لذلك.غير أن حزب العدالة والتنمية يرى خلاف ذلك ويتهم جماعة غولين بأنها تسعى لتنفيذ مؤامرة خارجية للإطاحة بسلطة حزب العدالة والتنمية انطلاقا من ذريعة قضية فساد غير مثبتة. بل إن جذور المؤامرة تذهب إلى احتجاجات تقسيم- غيزي واتهام أردوغان للجماعة بأنها سعت عبر قوات الشرطة إلى استخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين لتشويه صورة أردوغان.يدرك أردوغان جيدا أن ما يسميه بمحاولة الانقلاب المدنية عليه عبر الشرطة والقضاء كانت جدية للغاية وكفيلة بإضعافه لإخراجه من السلطة في الانتخابات البلدية أولا ومن ثم الرئاسية فالنيابية بعد سنة ونيف.من هنا فإن هذه الحملة المضادة الشرسة هي التي واجه بها أردوغان خصومه ووصفهم بأبشع الصفات ومنها اعتبار فتح الله غولين على أنه زعيم لعصابة وفيروس وجماعته أشبه بفرقة الحشاشين في العهد السلجوقي التي عاثت خرابا ونشاطا ضد الدولة حينها.من هنا كانت التدابير المضادة التي لجأ إليها أردوغان ومنها تصفية كل الموالين لغولين في السلطة بدءا من الشرطة وصولا إلى القضاء ومن ثم محاولات تعديل بنية المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين ليكون أكثر ولاء للسلطة السياسية.في سياق حماية الذات والسلطة يبرر لكل فريق اللجوء إلى كل الوسائل الممكنة ولو كانت قاسية. ولكن الطريقة التي اتبعها أردوغان لحماية سلطته اتسمت بالاستعجال الذي أوقعه في أخطاء ما كان يجدر به أن يرتكبها.ذلك أن من أهم عوامل صعود حزب العدالة والتنمية هو التفاف معظم التيارات الإسلامية حوله باستثناء أولئك المؤيدين لنجم الدين أربكان وكانوا يشكلون حزب السعادة لكنهم لم يكونوا مؤثرين ولم تتعد أصواتهم الواحد أو الاثنين في المائة. واليوم مع انفجار الخلاف بين أردوغان وغولين يكون انكسر عامود أساسي من سلطة حزب العدالة والتنمية خصوصا أن غولين، مثله مثل أردوغان، كان من ضحايا الحكم العسكري- العلماني المتشدد الذي تحكم بتركيا في سنوات ما قبل العدالة والتنمية. وهذا سيترك آثارا سلبية على قوة السلطة الحالية واستقرارها نظرا لما يتمتع به غولين من نفوذ سياسي واجتماعي وإعلامي وليس من صالح حزب العدالة والتنمية الدخول في عداء معه دون أن يعني ذلك الإذعان لأي ابتزاز. وكان يجدر بحزب العدالة والتنمية أن يتدارك أسباب الخلاف منذ أن بدأ سواء كان يتصل بقضايا داخلية أو خارجية.كما أن العديد من الفئات غير الإسلامية دعمت وصول العدالة والتنمية إلى السلطة ومن ثم النهج الإصلاحي الذي اتبعه وفقا لمعايير الاتحاد الأوروبي من أجل تركيا ذات ديمقراطية حقيقية وحريات فعلية.ولكن تعامل أردوغان مع قضايا تتعلق بالحريات والديمقراطية وآخرها السعي لتعديل قانون المجلس الأعلى للقضاة لضمان ولائه للسلطة السياسية بطريقة انتقدها الاتحاد الأوروبي جعل هذه الشرائح المستقلة تنفض تدريجيا من حوله منذ ثلاث سنوات وحتى اليوم.لا شك أن أردوغان يدرك من خلال استطلاعات الرأي أنه لا يزال الرجل الأقوى في تركيا حتى لو خسر بعض النقاط خصوصا في ظل غياب البديل القوي من المعارضة. لكن حتى لو كان أردوغان يحصد نقاطا إضافية فإنه ليس من مصلحة حزب العدالة والتنمية ولا تركيا ولا استقرارها أن يظهر بمظهر الطرف الذي يقف بوجه كل الأطراف ويعيد تركيا إلى مرحلة الاصطفافات التي لا تفيد أحدا.