10 سبتمبر 2025
تسجيلمن خلال معايشته للاستعمار الفرنسي في الجزائر ومن خلال علاجه للمرضى في المستشفى الأمراض النفسية في البليدة استطاع فرانز فانون أن يشخص أضرار ومآسي الظلم والتسلط والتجبر التي تفرضها الدول المستعمرة على الشعوب المستعمرة. فانون رأى الظلم بعينه واستنتج بأن الدول التي تدعي الحضارة والديمقراطية وحقوق الإنسان هي نفسها التي تستعبد شعوب المستعمرات وتنكل بهم وتساهم في تجهيلهم وتفقيرهم وحرمانهم من مقومات الحياة الإنسانية الكريمة. ولا غرابة اليوم ونحن في القرن الحادي والعشرين نسمع إيمانويل فالس المرشح للرئاسيات الفرنسية يصرح بأن فرنسا صدّرت الحضارة باستعمارها للجزائر. ما يشير إلى أن السياسي الفرنسي لم يقرأ التاريخ أو يتجاهل التاريخ! فعن أي حضارة يتكلم فالز؟؟ وهذا ما نبه إليه فرانز فانون وهو ضرورة التخلص من الاستعمار بعد الاستقلال. فالاستقلال لا يعني بالضرورة أن الدولة المستعمَرة قد تخلصت من رواسب وبقايا الاستعمار. من خلال معذبو الأرض يشرح فانون آليات التعذيب والظلم والعنف التي يمارسها الاستعمار على الشعوب المستعمَرة. يقول فانون: إن أوروبا تتحدث عن الإنسان، وفي الوقت نفسه تدمره حيثما وجدته، في كل زوايا شوارعها، وفي كل بقاع المعمورة. فهذا هو الغرب يوقف تطور الشعوب الأخرى، ويستعبدها لأغراضه ومنافعه الخاصة، لقرون ما فتئ خلالها يخنق، باسم المغامرة الروحية، كامل البشرية تقريبا! انظروا إليه الآن وهو يتأرجح ما بين التفكك النووي وما بين التفكك الروحي! هكذا قال فرانز فانون العام 1961 في خاتمة كتابه "معذبو الأرض". إذن كان الوقت ملائمًا لاستقبال كتاب فانون. ويتمثل أحد عوامل نجاحه في اللغة التي اعتمدها لتبليغ أفكاره إلى المعذبين في الأرض. وذلك ما جعل عدد من المعلقين يعتبرونه دعوة إلى أممية جديدة على مستوى العالم الثالث. فقد توجه بخطابه إلى الشعوب المضطهدة، ولم يتوجّه به إلى الغرب، فهو يطلق في ختام خطابه صرخة هي: "يجب أن نهاجر أحلامنا، أن نتخلى عن معتقداتنا وصداقاتنا التي سبقت. لا يجوز أن نضيع وقتنا في دعوات عقيمة ومحاكاة تبعث على الغثيان. لنغادر أوروبا هذه التي تتحدث دومًا عن الإنسان في الوقت نفسه الذي تقتله فيه تقتيلًا، كلما اعترضها في أي مكان من أنحاء العالم. خلص فانون أن الحل الوحيد للتخلص من الاستعمار هو العنف، اللغة الوحيدة التي يفهمها الطاغية. لقد تعرض فرانز فانون، غداة استقلال الجزائر، للكثير من الهجوم من قبل الكثير من الكتاب الذين اتهموه بتمجيد العنف الثوري، لاسيَّما في كتابه الشهير "معذبو الأرض". وهنا للتذكير نقول إن الذي طرح المشكلة في زمانه ليست أعماله في حد ذاتها بل المقدمة التي وضعها جون بول ساتر لهذا الكتاب المثير للجدل.من أهم الجوانب الأساسية في نضال فانون ارتباطه بإفريقيا. فكما يقول الكاتبان الفرنسيان بير وكلود شوليه" لقد أحس فانون من أول وهلة، بصدى الثورة الجزائرية على كافة بلدان القارة الإفريقية، وعلى الخصوص تلك البلدان التي كانت ما تزال ترزح تحت نير الاحتلال. وقد وجه نداء لشباب إفريقيا بالالتحاق بكفاح الشعب الجزائري، وأعلن تضامن الجزائر المكافحة مع شعوب إفريقيا السمراء في مواجهة الاستعمار الفرنسي، وقد وجدت نداءاته صدى واسعا في غانا وغينيا ومالي، ولدى القادة والمثقفين والطلبة الأفارقة. لقد سافر فانون كثيرا إلى بلدان إفريقية، ولاسيَّما غانا وغينيا، والكونغو البلجيكية سابقا، ومالي. وفي كل هذه البلدان استعرض الأهداف الكبرى للثورة الجزائرية، حيث كان سفير الجزائر في غانا، وكذلك رؤيته لتصفية الاستعمار. ولذلك فقد كان واحدا من أهم الناطقين باسم الشعب الجزائري أثناء محنته الطويلة. ولذلك أيضا كان واحدا من حاملي "الموهبة الإفريقية" في الجزائر. موهبة تجسدت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي على مستوى مجالات عديدة من أهمها التعاون الاقتصادي، والتبادلات الثقافية. فإن فرانز فانون يثير مزيدا من الاهتمام، حتى في الدول الاستعمارية السابقة. ففي رأي ميراي مانديس فرانس فإن فانون "سواء في إفريقيا، أو أوروبا، أو آسيا، أو الشرق الأوسط، أو أمريكا، يظهر اليوم وكأنه رجل اليوم، أكثر من أي وقت مضى. فهو يحمل الدلالة والمعنى في أذهان كل المناضلين من أجل الحرية وحقوق الإنسان في العالم، لأن التطور يظل دوما الهدف الأول للأجيال التي تصل إلى مستوى النضج السياسي". لقد ألقى، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة أمام المرض العضال الذي أصابه، بآخر قواه في بيان تصفية الاستعمار هذا الذي كان وصية رجل ثائر أراد أن يحرر المستعمَر من مُستعمِره، وأن يحرره من الاستلاب الذي تولّد عن الرجل الأبيض". هكذا كان فرانز فانون يقول. لكن، ما هي الطريقة التي يقترحها لتحقيق ذلك؟ إنه اللجوء إلى العنف، للتخلص من العنف الذي كان مجسدا في الحاكم المستعمٍر. "على مستوى الأفراد يؤدي العنف إلى إبطال مفعول السم.