18 سبتمبر 2025
تسجيلأكبر مشروع تنموي في السودان، يثير أعاصير اجتماعية تزيد من تحديات الحكومة السودانية.. أهالي المنطقة التي غمرتها مياه السد، يطالبون ويضغطون على الحكومة لتوفير التمويل اللازم لتوطينهم في مناطق حول البحيرة وهو ما سمي بالخيار المحلي لعملية إعادة التوطين.. البروفيسور يعقوب أبوشورة وزير الري الأسبق حذر من الخيار المحلي حيث إنه من المتوقع أن تنحسر بحيرة سد مروي لأكثر من كيلومترين في أحسن الأحوال وهو ما يجعل إقامة طلمبات للري على البحيرة أمر مستحيل، وبالتالي فشل ذلك الخيار.. المطلوب ليس إقامة منازل ومساكن فحسب، بل المطلوب إقامة مشروع زراعي على أسس اقتصادية.. وزارة السدود تقول إنها أنشأت (3) مشاريع لإعادة التوطين بموافقة الأهالي عبر ممثليهم فيما عرف باللجان الشعبية وهي ليست معنية بإقامة مشروع جديد ليس فيه جدوى اقتصادية، فضلا عن أن ملايين الجنيهات صرفت في المشاريع الثلاثة التي استوطن فيها بالفعل أعداد كبيرة من أهالي المناطق المتأثرة بمشروع سد مروي.. الحكومة السودانية محاصرة بمطالب المناصير وخائفة من اختطاف المعارضة للقضية بيد أنها حرضت – أي المعارضة - المناصير على تدويلها!!. كلام الخبير الضليع أبو شورة خطير جدا وهو كلام فني بحت ولا علاقة له بالشد والجذب الذي يدور هذه الأيام.. من قبل حديث أبو شورة، قامت شركة موننكواقرا الكندية بدراسة لصالح وزارة الري والموارد المائية والهيئة القومية للكهرباء في العام 1991م، حيث أوصت الدراسة بضرورة إعادة توطين جميع المجموعات المتأثرة في منطقة الفداء (مشروع الكحيلة شرق)، وعدم ملاءمة أي خيارات محلية أخرى.. كذلك أعقبتها دراسة هيئة جامعة الخرطوم الاستشارية وهي هيئة مستقلة تتبع جامعة الخرطوم وتعتبر أعلى جهة بحثية بالبلاد فقد أوصت الدراسة برفض المقترحات المقدمة كخيارات محلية في مشاريع (الحويلة – سهل البان – كحيلة غرب – سهل الحراز – أم سرح) وأوصت بتنفيذ مشروع (المكابراب) (المناصير الجديدة) ومشروع الكحيلة شرق (الفداء) وهي المشاريع التي نفذتها وحدة السدود بالفعل.. أيضا قامت شركة يام (وهي شركة خاصة) في عام 2006م وبناء على طلب ولاية نهر النيل ولجان المتأثرين بدراسة خيار توطين المناصير حول البحيرة، حيث تم تكوين لجنة فنية برئاسة وكيل وزارة الري وعضوية عدد من الخبراء والمختصين لتقييم الدراسة وأوصت برفض الدراسة لأسباب فنية والتركيز على وسائل ومشاريع أخرى أكثر جاهزية.. أبو شورة أكد أن إقامة مشاريع خيارات محلية للمناصير حول البحيرة يمكن أن يؤدي إلى فشلها وطالب الدولة بعدم الرضوخ للحلول التي لا تعتمد على رؤى فنية وعلمية والتي تتجاوز المعايير الفنية ومخرجات الدراسات السابقة.. المنطق يقول إن ما توصلت إليه تلك الدراسات يدحض بالضرورة ما يروج من إمكانية قيام أي جهة ببيع الأراضي حول البحيرة لمستثمرين فليس هناك مستثمر (مجنون) يلقي بأمواله هكذا.. من يستقرئ التاريخ يجد أن هنالك تجربة سابقة لحكومة الفريق عبود في خيارات توطين أهالي حلفا حول بحيرة السد العالي حيث رفضها مجلس وزرائه في ذلك الوقت لعدم وجود دراسة فنية تعضد ذلك الاتجاه. أعتقد أن القضية برمتها قضية مطلبية، مرتبطة بعوامل فنية.. لكنها تحولت إلى قضية سياسية، بل حولها اعتصام نفر من الأهالي إلى قضية على صفيح ساخن، قضية لا تستطيع حكومة ولاية نهر النيل حلها، فالمركز حمّل الولاية ما لا تطيقه.. القضية تحتاج لحل عاجل على المستوى الاتحادي.. حكومة ولاية نهر النيل وجدت نفسها أمام مأزق وتحدٍ لا قبل لها به.. ما يدهش أولئك الذين يريدون إثارة الأعاصير لأجل الكسب السياسي.. ما يسمى بـ(الجبهة السودانية للتغيير) أصدرت بيانا قالت فيه إنها (تقف مع قضية المناصير العادلة).. أحدهم كتب مقالا بعنوان (المناصير.. استعدوا للأعاصير).. وآخر كتب يقول: (التهجير تم بطريقة ممنهجة لمجموعات معينة من شمال السودان من أجل إبادة ثقافاتها ومحو تاريخها من المنطقة لتتم عملية الإحلال والإبدال بطريقة سلسة دون أن يلتفت إليها النائمون)!!. المدهش حقا أن ما يسمى بقوى الإجماع الوطني طالبت بتدويل هذه القضية وقال الأمين السياسي بحزب المؤتمر الشعبي (نتمسك بمشاركة المجتمع الدولي في القضية)!!. رئيس لجنة المتأثرين بقيام السد قال (إن قضيتنا تتعلق بالحقوق وليس لها علاقة بالسياسة ولن نسمح بدخولها في هذا المسار رغم محاولة بعض الأحزاب اختطاف القضية). مشروع سد مروي الذي بسببه برزت هذه القضية هو مشروع طاقة مائية متعددة الأغراض، يهدف في الأساس لتوليد الطاقة الكهرومائية.. الشلال الرابع على نهر النيل في مروي كان المكان المناسب وفقا لعدة دراسات قبل عدة عقود.. كثير من المداد سينفد حتى نعطي ذلك المشروع حقه، وهو ببساطة مشروع تنموي غير مسبوق.. لم يكن طريق مشروع سد مروي مفروشا بالورود على الإطلاق، فقد مرّ عمل إقامة هذا الصرح بظروف صعبة في ظل حصار اقتصادي ضُرب على السودان.. سواعد السودان هناك عند التلال الرملية التي غدت رياضا غناء أحيط بهم فما وهنوا ولا جزعوا.. الفقر والجفاف وقسوة الطبيعة بقيت سمات رئيسة للولاية الشمالية التي تحتضن السد.. سكانها ظلوا ممسكين على الجمر زغب الحواصل لا ماء ولا شجر.. اليوم ليست تلك الولاية فحسب بل كل ولايات السودان بلا استثناء تنعم اليوم بخيرات مشروع سد مروي العظيم. يقيني أن المناصير وهم القبيلة التي تطالب بالخيار المحلي وغيرهم من أهل الشمالية قد ضحوا كثيرا وواجب على الدولة أن تقف معهم وتعوضهم.. صحيح أن الإجراءات التي اتبعت كانت إجراءات فنية ومنصفة، لكن ليس من الحكمة أن ينفد صبر الدولة أو تلوذ بالصمت وتدع والي نهر النيل في (حيص بيص).. نعم لقد راعت الدولة وإدارة السد محورين أساسيين في اختيار مواقع إعادة التوطين وهما: إعادة توطين المتأثرين في بيئة شبيهة لبيئتهم، والحفاظ على ممارسة المتأثر لنفس نشاطه الاقتصادي والاجتماعي في موقعه الجديد وذلك تمشيا مع الأسس والقوانين الدولية في عمليات إعادة التوطين والاستفادة من التجارب المحلية والعالمية في هذا المجال.. نعتقد أن الحوار ولا شيء غير الحوار هو أقصر الطرق لإرضاء أهلنا المناصير وإقناعهم بأن الدولة تبذل كل ما في وسعها ولا تضن عليهم بشيء تستطيع عمله.. على الدولة أن تصدق نواياها وعلى المناصير الابتعاد عن من يريدون المتاجرة السياسية بقضيتهم، وبذلك تفشل مخططات مثيري الأعاصير الاجتماعية.