10 سبتمبر 2025

تسجيل

بين الطموح والقناعة

17 أكتوبر 2018

لا يَتصور الإنسان أنه قد يتعارك مع ذاته، لأن ذلك يستحيل منطقيًا من الناحية الفيزيائية؛ لكن فيما وراء هذا الجانب من خلق الله تعالى، والمتمثل في النفس البشرية قد يكون الأمر مختلفًا؛ فالروح سر عظيم وإبداع تتجلى فيه عظمة وقدرة الحكيم العليم، ولا يمكن بأي حالٍ الإحاطة بمكنونها وتفاصيلها أو استنساخها «‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا»، فكل ما لدينا من علوم حول هذه الروح لا يعدو أن يكون في دائرة القليل. وبعيدًا عن الجدل في موضوع النفس والروح والفرق بينهما، فإن النفس البشرية لا تصل إلى مرحلة الاستقرار والاطمئنان «النفس المطمئنة» إلا بعد صراعات ونزاعات داخلية تنتظم في عمليات تشكل ميكانزما معقدة تصعب إحاطتها، لذا أقسم الله تعالى بهذه الحالة النفسية العظيمة في قوله جل وعز: «وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ» إن الأمور الشعورية والأحوال القلبية تتعدى الظواهر الطبيعية العادية إذ يصعب نظمها وفق معادلات أو نظريات علمية، لذا فإن الوضع الصحيح للتعامل معها هو إتباع التوجيهات الربانية من خالقها «أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» ولعل من التجاذبات التي تطرأ على النفس البشرية تنازعها بين رغبة الطموح وحالة القناعة، وحتى ندرك ضرورة التوازن بين هذين العاملين وضبطهما فلنتصور طرفاهما، والذي يتمثل أحدهما في طموح غير منتهي أو منضبط يصل بصاحبه إلى عدم الرضا عن حاله مطلقًا فيعيش في دائرة الألم والصراع مع نفسه ومع الآخر، وكم نخطئ عندما نجرع أولادنا جرعة الطموح المجردة والمبالغ فيها لنصنع منهم مشروعًا قد يخترق ما أمامه دون مراعاة لقيم أو ثوابت قد يُخشى في نهايته أن يصل إلى التدمير الذاتي. وفي الطرف المقابل فإن المبالغة في التموضع حول المفهوم السلبي للقناعة يؤدي إلى خمول لدى الأفراد تتباطأ معه حركة الحياة وديناميكيتها حتى تتوقف إيذانًا بالموت الحركي الفاعل لهؤلاء الأفراد. ما سبق قد يظنه البعض تهويلًا لكن من عايش تجارب كهذه في ذاته أو مع غيره سيدرك خطورة عدم التوازن بين الطموح والقناعة. أعتقد شخصيًا أن من الأخطاء التي نكررها تسليمنا بعبارة أن الطموح لا حدود له، وهو ما يناقض العقل والمنطق والشرائع، فما دمنا نتحدث في دائرة المخلوق فالحدود ثابتة حتى في إطار النفس البشرية، ولعل مما يُستحضر هنا قوله تعالى: «وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ». كما أن تجريم الطموح مطلقًا وأنه منافٍ للرضا والقناعة خطأ جسيم، والمطلوب هو التوازن بين هذه التنازعات فإن من عوامل نجاح هذا الإنسان في الدنيا والآخرة هو الطموح، فليحرص على أن يكون طموحه مشروعًا، فلا يطمح إلى ما لا يجوز له شرعًا، ولا يطمح لصنع نجاح يبنيه على أنقاض الآخرين؛ وفي كل لحظة من لحظات وصوله أو توقفه أو تعثره ليعش حالة الرضا لتسكن نفسه، ولعل من أهم ما يمكن أن يضبط هذه الاضطرابات أن يجعل الإنسان طموحه الدنيوي مرتبطا في نهايته بالطموح الأخروي، وهذه خلاصة تجربة الطموح التي عاشها الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى حين قال: «إن لي نفسًا توَّاقة لا تُعطى شيئًا إلا تاقت إلى ما هو أعلى منه، وإني لما أُعطيت الخلافة تاقت نفسي إلى ما هو أعلى منها وهي الجنة». إن هذه المعالجات المستمرة لهذه النفس ليست بالأمر الهين لكن من جاهد وصل، وجهاد النفس من أشق أنواع الجهاد حتى يبلغ المرء بروحه مقام الرضا والاطمئنان.