31 أكتوبر 2025
تسجيلتجمع الأحزاب التونسية الديمقراطية، ومنظمات المجتمع المدني، على أن المال السياسي الفاسد الذي بات يسيطر على المشهد السياسي التونسي، ويضرب الانتخابات التشريعية في العمق، يتأتى من مصدرين رئيسيين:الأول: داخلي، من خلال اكتساح رجال الأعمال المنضوين في إطار منظمة الأعراف(الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة) بقيادة السيدة وداد بوشماوي، رئاسة القوائم الانتخابية في الأحزاب الكبرى، لاسيَّما حزبي نداء تونس، وآفاق تونس، بوصفهما حزبين ينشدان الليبرالية الاقتصادية، حيث احتل رجل الأعمال المشهور السلامي رئاسة قائمة صفاقس بالنسبة للأول، والكاتب العام الجهوي لاتحاد الصناعة والتجارة بتونس، بالنسبة لآفاق تونس، ومالك شركة «سيفاكس آر لينز» محمد فريحة بالنسبة لحزب النهضة. والثاني: خارجي. زواج المال والسياسة أحد الخصائص المميزة للانتخابات التشريعية التونسية هذه، وهو مؤشر واضح يعكس إخفاق النخب السياسية والأحزاب السياسية في مواجهة هجمة رجال المال والأعمال التي تصدرت المشهد السياسي والانتخابي التونسي، وفي تقديمها برامج انتخابية واقعية تستجيب لمطالب التونسيين في التنمية والتشغيل. فما يحصل اليوم خلال الحملة الانتخابية هذه، هي ممارسات تتلاعب بإرادة التونسيين، وحالة من إفلاس الأحزاب السياسية التي ارتمت في أحضان رجال المال والأعمال، وباتت لا تراهن على تجاوب الناخبين مع برامجها بقدر ما تراهن على شراء أصواتهم، لاسيَّما الأحزاب الليبرالية، لقناعتها بأن الفوز في الانتخابات يمر عبر قدرة رجال المال والأعمال على ضخ الأموال في الحملة الانتخابية. ويرى كثيرون أن هذا الزواج غير الشرعي بين المال والسياسة سيقود إلى نتائج كارثية لا تعكس طموحات الشعب التونسي، وأهداف الثورة، بل سيعيد إنتاج النظام القديم في ثوب ديمقراطي جديد زائف، تتقاسم فيه القوى القديمة والجديدة الهيمنة على مفاصل السلطة والثروة في المجتمع. وللشأن السياسي التونسي يرون بوضوح أن المال السياسي مكن حركة النهضة، والأحزاب الليبرالية الكبيرة من أن تتقدم بقوائم انتخابية في كل الدوائر البالغ عددها 33 دائرة، 27 داخل تونس و6 بالخارج فيما فشلت غالبية الأحزاب اليسارية والعلمانية في تغطية كل الدوائر الانتخابية ليس فقط بسبب محدودية انتشارها الشعبي وإنما أيضا بسبب تواضع إمكاناتها المالية.. ومع انطلاق الحملة للانتخابات التشريعية، أصبحت الأحزاب الصغيرة وذات الإمكانات المحدودة، وكذلك القوائم المستقلة، تتساءل عن مصادر التمويل بالنسبة للأحزاب الكبيرة، ومدى التزامها بالسقف الذي ضبطه القانون في الإنفاق على حملاتها الانتخابية. والسؤال الذي يطرحه التونسيون، هو هل تمتلك الهيئات المعنية بمراقبة تمويل الحملات الانتخابية، بموجب القانون الانتخابي والقانون بصفة عامة، القدرة على الوقوف على التجاوزات في هذا المجال.هناك قانون انتخابي تم إقراره في تونس، وينص صراحة على مراقبة حسابات المرشحين، لكنه يحمل العديد من الثغرات، فهيئة الرقابة العمومية للانتخابات في تونس لا تستطيع أن تراقب التمويل المشبوه المتأتي من قبل أصحاب المال داخليا ومن قبل القوى الإقليمية خارجيا، أو عبر بوابة الجمعيات الخيرية أو الهبات العينية أو التحويلات الكبيرة. فهيئات الرقابة العمومية يمكنها مراقبة الحسابات المالية الخاصة بالانتخابات التشريعية أو الرئاسية التي تمنحها الدولة للمترشحين، ولكنها لا تستطيع أن تراقب حساباتهم الشخصية ولا حسابات المرشحين معهم بنفس القائمة. وهو ما يمكن المرشحين من تمويل حملاتهم بأموال تأتي من مصادر مشبوهة بالخارج أو الداخل دون أن يعرضوا أنفسهم للعقوبات التي أقرها القانون. كما يمكن للمرشحين تمويل حملاتهم بأموالهم الذاتية أو من قبل المتعاطفين معهم ولا من رقيب أو حسيب، فسقف التمويل الانتخابي الذي أقره القانون يبقى سقفا نظريا إذ إن ما يصرف فعليا يتجاوز بكثير ما هو موثق بالدفاتر ولدى هيئة الانتخابات. خطورة المال السياسي الفاسد (من الداخل والخارج) في تفشي الفساد داخل الأجهزة الحزبية من جراء هشاشتها وضعف الديمقراطية والشفافية داخلها، لاسيَّما أن القواعد في تلك الأحزاب لا تعلم عن الميزانية داخل الأحزاب، ولا عن التدفقات المالية التي تأتيها، ولا عن الصفقات المالية المشبوهة مع رجال المال التي يوظفها القادة الحزبيون من أجل الفوز في الانتخابات أو التمركز في القيادة. وينخر المال السياسي الفاسد أجهزة الدولة عموماً، وهو يتفاقم مع تصاعد التسلل الهرمي السياسي، بدءاً من المسؤولين الكبار في الأحزاب السياسية الكبيرة، ومروراً بالعديد من النواب في المجلس التأسيسي الذين لم يكونوا متحمسين لسن عقوبات رادعة ضد استعمال المال الفاسد، ووصولاً إلى رجال المال والأعمال الذين هم أكثر فساداً من بين هؤلاء، وهم محل سخط شعبي وموضوع تتبع قضائي «مؤجل» في انتظار تفعيل العدالة الانتقالية، بسبب تهربهم من دفع الجباية المالية للدولة، وعملية تبييض أموالهم عبر ضخ المال الفاسد في هذه الحملة الانتخابية للعديد من الأحزاب، بهدف استمالة الفئات الهشة والفقيرة من أجل شراء أصواتها، لضمان فوزها في الانتخابات، وبالتالي ضمان صعودها إلى الحكم.. علماً أن النتائج في هذه الحال لا تعكس الإرادة الحرة للتونسيين في اختيار من سيمنحونهم أصواتهم.المال السياسي الفاسد يساهم في ضرب عملية الانتقال الديمقراطي في تونس، حيث يتمثل هذا الخطر في استخدام الأحزاب السياسية المال لشراء أصوات الناخبين وذممهم لتحصيل أكبر عدد ممكن من الأصوات. وهو ما يجب إيلاءه كل الأهمية لأنه لا يمثل عملية تزوير لإرادة التونسيين بل هو عملية اغتيال للتجربة الديمقراطية. إن عملية «الانتقال الديمقراطي »لا يمكن أن نقول عنها إنها مكتملة إلا إذا توافرت فيها شروط عديدة، أبرزها: أن يعمل الفاعلون السياسيون الرئيسيون على محاربة تأثير المال السياسي الفاسد(من الداخل والخارج)، لأنه يشكل العدو الرئيسي للتجربة الديمقراطية عبر مصادرة إرادة الشعب، والمشاركة الشعبية المتحررة من الضغوطات المالية، والتعددية السياسية، والتداول السلمي للسلطة، والحريات العامة والخاصة. وبصورة إجمالية، المال السياسي الفاسد يشكل العائق البنيوي الكبير نحو إقامة المؤسسات الدستورية والسياسية التي تشكل الأرضية الحقيقية لبناء النظام الديمقراطي الجديد في تونس، لاسيَّما تشكيل حكومة جديدة منبثقة من خلال انتخابات عامة تكون حرة ونزيهة. لكن المال السياسي الذي تقف وراءه منظمة الأعراف(اتحاد الصناعة والتجارة)، والقوى الإقليمية، يريد أن يصعد رجال الأعمال، والأحزاب السياسية التي تتبنى نهج الليبرالية المتوحشة، إلى الحكم، لكي يصبح البرلمان التونسي المقبل خاضعاً لتأثير وتوجهات منظمة الأعراف، التي تدافع عن النموذج الاقتصادي والمنوال التنموي الرأسمالي الليبرالي الذي سارت عليه تونس خلال العقود الخمسة الأخيرة، ما قبل ثورة 14 يناير 2011، والذي قاد إلى زيادة إفقار الطبقات والفئات الشعبية، والطبقة المتوسطة، وتنمية معدلات البطالة بصورة كبيرة، ورهن البلاد للمؤسسات الدولية المانحة. إن التحول الديمقراطي الحقيقي الذي ينشده الشعب التونسي ما بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة، مرتبط بإقامة نموذج جديد للتنمية الاقتصادية غير خاضع لمقتضيات الليبرالية المتوحشة، ويقوم على دعامتين أساسيتين: الدعامة الأولى تتمثل في أن الديمقراطية تعني تنظيم الأفراد في جماعات تنافسية من خلال نظام تعددية حزبية بهدف السيطرة على سلطة الدولة. والدعامة الثانية، إن الديمقراطية شرط أساسي لبناء الدولة الوطنية التي تستطيع مقاومة الضغوط السلبية النابعة من النظام الدولي الجديد الذي تتحكم فيه القوى الدولية الغربية، والمؤسسات المالية المانحة، وكذلك ما يترتب عليها داخليا من آثار وعواقب.ويمكن القول بصفة عامة إن مقولة الديمقراطية تساوي نموذج التنمية الذي أضحى قضية خلافية في الجدل السياسي التونسي. فهناك من يرى الديمقراطية من المنظور الليبرالي، ويدافع عن النموذج الاقتصادي الليبرالي المتوحش، وهو ما سيقود إلى إعادة إنتاج نظام ابن علي، وبالتالي إعادة إنتاج منظومة الفساد السياسي والاقتصادي والثقافي التي كانت سائدة قبل الثورة، والتي جعلت تونس خاضعة للهيمنة الغربية وتابعة لها. وهناك من يؤكد في تونس على ضرورة تحلل مفهوم الديمقراطية من إطاره الرأسمالي، وانتهاج نموذج جديد للتنمية عبر إعطاء عملية التحول الديمقراطي توجها وطنياً (أي معاد للإمبريالية الغربية) ومضمونا اجتماعياً(أي معاد لليبرالية الرأسمالية المتوحشة ومن يمثلها من منظمة الأعراف والبرجوازية الطفيلية في الداخل).