12 سبتمبر 2025
تسجيلمعلوم أن مصطلح "الربيع العربي" لم يكن منتجاً عربيا، حاله كحال آلاف المصطلحات والتعميميات الغارقة بها مجتمعاتنا العربية. هو مصطلح مستورد شأنه شأن مصطلحات: "الأصولية"، "الراديكالية "،"الإرهاب " وغيرها، لكنّه مصطلح محبب إلى قلب كلّ توّاق إلى التغيير أو باحث عن مسار جديد في التاريخ السياسي والاجتماعي للشعب العربي الذي يئن تحت نير التخلف والتبعية والصراعات الداخلية. على أي حال، لا يعيب "الربيع العربي" كونه مصطلحاً مستورداً، ولا ينقص من قدره إذا ما كان عائداً بالنفع على المجتمعات التي ولد فيها عاجلاً أم آجلاً. لم ينجح أعداء "الربيع العربي" في الداخل والخارج، تسويق مصطلحات مضادة له حتى الآن على شاكلة "الخريف العربي"، "الربيع الدامي "، "الشتاء الإسلامي"، "الاستعمار الجديد "، "سايكس بيكو جديد" بذريعة أن الربيع المزعوم لم يثمر إلاّ تصدر تيارات الإسلام السياسي للحكم. والمدقق في الخلفية التي ينطلق منها هؤلاء يجد، على الرغم مما سبق، أنهم يؤمنون بشكل لا ريب فيه أن تحولاً عميقاً وشاملاً طرأ على الواقع العربي، ولا يعرف بعد ما عمق ديناميكية هذا التحول أو أين سيقود المجتمعات العربية في نهاية المطاف؟! وعلاوة على أن الربيع المذكور لم يزر جميع الدول العربية، وإن زار بعضها، فقد تمّت محاربته على أنه غزو ثقافي واستعماري بثوب ولون جديدين يتناسبان مع ثقافة العولمة، وما أفرزته من مجتمعات مفتوحة عالميا بفضل الوسائط الاجتماعية، والابتكارات التكنولوجية ذات التوجه السوسيولوجي. والخطر الذي يواجه "ربيعنا" أو ما يحمله في حده الأدنى من تطلعات لدى هذه المجتمعات المسروق وعيها الديني، والمفروض عليها الحجر السياسي، والخاضعة تماماً لعملية نهب منظم لخيراتها على يد فئة قليلة متسلطة ونافذة، يكمن في سلسلة التشريعات والأعراف والتقاليد والمصطلحات التي تعمّمها هذه الفئات عبر وسائل الإعلام للحيولة دون أي ثورة مجتمعية حقيقية تنفض غبار الماضي، وترسم خط سيرٍ لمستقبل الأجيال المتعاقبة. وما يساعد هؤلاء الكارهين للربيع العربي ووروده هو ما تتعرض له الدول التي شهدت ثورات من نكسات. حتى الآن لم يستفق المراقب من هول الردّة الفكرية والسياسية التي أصابت النخب المصرية مع عزل الرئيس مرسي، وعودة العسكر للتربع على سدّة الحكم ربما لعقود قادمة، وما تلاها من تهميش متعمد لمفهوم الحريات الخاصّة والعامّة أعاد مصر إلى عصور ما قبل التحرر في ظلّ ماكينة إعلامية لا عقال يردعها، مسعورة في خلق هستريا مجتمعية ضدّ كلّ رافض لما أفرزته تحولات 30 يونيو.. وما يحدث في سوريا من تدمير منهجي واسع للدولة والمؤسسات والمجتمع ذي الفسيفساء الدينية والمذهبية والعرقية على يد المتحاربين فيه يصيب المرء بالذعر والخوف مما هو قادم. والأخطر هو ما تشهده ليبيا! إذ كيف يعقل أن يتمّ خطف رئيس حكومة على يدّ ميليشيا ثورية أو خطف الولايات المتحدة لمواطن ليبي دون اعتبار لوجود السلطات الأمنية والسياسية الليبية في استباحة واضحة لكل مفردات السيادة؟! أما تونس، فما زالت تصارع للعبور بمركب التحول إلى برّ الأمان. سلسلة الأخطاء التي وقع بها الحكّام الجدد، وفعالية الدول العميقة في إجهاض أيّ تحول مثمر أعطى مبررات كافية لكل ديكتاتور عربي للتسويق أن "الربيع" صنيعة غربية لتفتيت العالم العربي وتقسيمه تحت شعارات براقة، مثل حرية الرأي والتعبير، وحقوق الإنسان، وتداول السلطة بالوسائل الديمقراطية. ومع كثرة المشاكل التي تعاني منها المجتمعات العربية يصبح للقلق من إجهاض الربيع العربي مشروعية وجيهة، حيث لا توجد مؤسسات مجتمع مدني فاعلة وقادرة على مواجهة توغل السلطتين الدينية والسياسية في تزييف المزيد من الوعي الجمعي. الربيع اليوم على المحك، ففي حال انزلقت ليبيا إلى مزيد من الانفلات الأمني، أو عجزت تونس عن عبور مرحلة التحول نحو الاستقرار في ظل الصراع المستميت بين المعارضة التواقة للسلطة بنشوة ما حصل مع نظيرتها المصرية، وبين الترويكا الوارثة لكل أزمات دولة بن علي، أو فشل الحوار المجتمعي في اليمن في تحقيق تطلعات اليمنيين، أو سارت سوريا نحو مزيد من التشظي، علينا أن نسأل حينها: كم عقدا ينبغي أن ننتظر من جديد ليزورنا ربيع آخر؟