15 سبتمبر 2025
تسجيلأغرب ما في قصة مخطط الاغتيال المنسوب إلى إيران أن أخطر ما واجهه بعد الإعلان عنه، هو التشكيك بما كشف من معلومات، ليس فقط من جانب إيران فهذا متوقع، وإنما من جانب محللين غير معروفين بتعاطفهم مع الجمهورية الإسلامية. فالصحف الغربية اعتبرته مخططاً "مزعوماً"، أي لم يثبت بعد، أما المشككون فكانوا غربيين وعربا، وليس بينهم من اهتم حقاً بالنفي الإيراني الشديد، لكنهم افترضوا جميعاً أن الأجهزة المعنية في واشنطن مطالبة بأن توفر مزيداً من الإيضاحات إذا كانت تطمح إلى الإقناع. راوحت دوافع التشكيك بين مجموعة من الحجج انطلقت جميعا من أن القصة المطروحة تعاني ركاكة غير معهودة في العمليات التي تكون إيران رأسها المدبر. وفي الوقت نفسه لم تتوافر أسباب جدية وملحة تضطر الإدارة الأمريكية إلى اختراع مبرر أمني ذي طابع إرهابي مركب على صراع دولي-إقليمي، لمجرد أنها تريد الضغط على إيران. فإدارة باراك أوباما تبقى مختلفة على إدارة جورج دبليو بوش، إذ برهنت الأخيرة أنها كانت تعمل بذهنية أيديولوجية متعصبة وبأجندة حربية خفية مسبقة، ولو لم تقع أحداث 11 سبتمبر وما أوجبته من ردود فعل شديدة التوتر والثأرية، لكانت الحروب وقعت في مكان آخر، ربما في آسيا تحوطاً من صعود نفوذ الصين واستعداداً لإحاطتها بالحواجز. مع ذلك، تشابهت الإدارتان السابقة والحالية في أنهما تسعيان إلى احتواء "الخطر الإيراني" واستيعابه، لكنهما لا تريدان الذهاب إلى حرب ضد إيران، قيل ويقال دائماً إن "كل الخيارات مطروحة" ضدها، ورجح دائماً خيار الدبلوماسية لضبط برنامجها النووي. صحيح أن إسرائيل تواصل التحريض والإلحاح لشن ضربة عسكرية واسعة ضد المنشآت النووية ومكامن القوة الحربية الإيرانية، وطالما أوصى الإسرائيليون بأن لديهم خططا واستعدادات جاهزة لـ"إنجاز المهمة" إلا أنهم اصطدموا بمعارضة جلية من البنتاغون، فحتى لو كانت الضربة ممكنة تقنياً غير أن قرارها يستوجب أخذ كثير من العوامل الإقليمية في الاعتبار، وهذا ما لا تحبذ إسرائيل سماعه أو تقلل من أهميته لكنها مجبرة على الرضوخ لوجهة النظر الأمريكية لسبب بات واضحا. وهو أن إسرائيل لا تستطيع بمفردها أن تنجز العمل، لذلك فهي مضطرة لطلب تغطية واستعداد أمريكي للتورط. هذا ما جال في الأذهان بعد انتشار أنباء المخطط الإيراني لاغتيال السفير السعودي في واشنطن. وتذكر الجميع أن وزير الدفاع الأمريكي زار إسرائيل قبل نحو أسبوعين وقالت التسريبات المنظمة إن هدفه الأول كان ثني الإسرائيليين عن التفكير في أي هجوم ضد إيران، ويتبين الآن أن الوزير ابلغ الإسرائيليين بشأن مخطط الاغتيال وما بلغه التحقيق، إذ كانت الأجهزة تستكمل الربط بين أجزاء الصورة التي توصلت إليها. ويروي أحد الذين دعوا إلى إعطاء تقييم للمعلومات المتوافرة أن الأمريكيين أنفسهم كانوا مستغربين بدورهم أن يتصرف الإيرانيون على هذا النحو المفتقد إلى الحرفية، مع علمهم أنهم يتحركون في دولة كبرى ضاعفت قدراتها البوليسية والاستخبارية لمنع حصول أي عمل إرهابي في الداخل. بعد الإعلان عن "اتصال مباشر" أمريكي-إيراني حصل على خلفية مخطط الاغتيال الذي اختير له مطعم "كافيه ميلانو" بات العديد من المحللين يعتقد أن هذا "الاتصال" أضفى مصداقية على القصة. فواشنطن أرادت إبلاغ طهران بما لديها، ولو لم تكن متأكدة منه لما كان الاتصال الذي يعتقد أنه كان بهدف الإنذار أيضا، ورغم إنكارها الشديد، وشكواها إلى الأمم المتحدة لم تستطع طهران تجاهل ما بلغها، فمنذ الآن أصبح هناك ملف مزعج يضعها في مواجهة مع الولايات المتحدة والسعودية في آن. الفارق بين الأمريكيين والسعوديين أن الأخيرين كانوا توصلوا في التحقيق في تفجيري الخبر والرياض ضد القوات الأمريكية إلى ما يثبت تورط الإيرانيين، إلا أنهم أغضبوا الأمريكيين بتكتمهم على المعلومات تجنبا لردود فعل أمريكية مقهورة وإن كانوا حرصوا في الوقت نفسه على أن يأخذ الإيرانيون علما بأنهم مشتبهون بل أن تورطهم قد كشف. فجأة وجدت طهران أنها فقدت ورقة مهمة كانت بذلت جهدا فائقا لوضعها على طاولة أي مفاوضات دولية، فإذا صح أنها تخطط لاغتيال سفير السعودية فهذا يعني أمرين على الأقل، أولهما أنها لم تتخل – كما أوصت – عن دعم الأنشطة الإرهابية، والثاني أنها تستحق الاعتراف بنفوذها الإقليمي وببرنامجها النووي "السلمي" لأنها لم تعد تشكل خطرا على جيرانها، صحيح ان هذا الادعاء لم يؤخذ على محمل الجد والصواب، إلا أنه اعتبر معياراً حاسماً لانتهاء أي توتر دولي –إقليمي حيال إيران، والواقع أن نوعية التدخلات التي افتضحت وكشفت، والكثير منها الذي أبقى سراً، من العراق إلى البحرين ولبنان وفلسطين، فضلا عن سوريا في أزمتها الراهنة، كانت أسقطت أي أوهام بأن إيران مصممة فعلا على إقامة علاقات سوية مع جيرانها، ولعل مرحلة الحراك الشعبي في العالم واحتمال خسارة النفوذ خصوصا في سوريا ولدى حركة "حماس". وبالأخص فشل إدارتها للأزمة في البحرين، أدخلت إيران في مزاج عصبي فاقمت صراعات داخلية بين أجنحة النظام. وانطلاقاً من هذا المعطى الأخير طرح بعض الخبراء فرضية أن يكون وراء مخطط الاغتيال في واشنطن إما "لاعب معزول" أو "عناصر" تتمتع بشيء من استقلالية الحركة. قد تصح هذه الفرضية في ساحة ثانوية، أما اللعب داخل الولايات المتحدة فشيء آخر ثمة من اعتبر أن تفاصيل المخطط تعكس احتمالين، أولهما أن إيران لا تملك فريقا مدربا وناشطا على الأرض الأمريكية، والثاني أن المخطط الذي كشف قد يخفي آخر أكثر تعقيدا لا يزال يتفاعل سراً. غير أن معظم التحليلات انطلقت من واقع أن ركاكة التخطيط (الاعتماد على شخص غير مدرب وعلى عصابات مخدرات) لا تطابق النمط المعروف عن ضلوع إيران في عمليات بهذه الخطورة، حتى لو كان المقصود إظهار العملية كأنها من صنع تنظيم "القاعدة"، والأكثر ترجيحاً، بعد درس أهداف ذاك المخطط، أنه ربما يكون السفير السعودي مزعجاً لإيران بحراكه النشط بين "اللوبيات" الأمريكية، أما الهدف الآخر فلعله تحقق إذ أرادت طهران إيصال "رسالة" مباشرة بأنها لن تقف متفرجة إزاء ما يحصل في سوريا والبحرين، واستطراداً ما يمكن أن يحصل في لبنان، ومع ذلك يمكن القول إنها اختارت أسلوباً ينطوي على مجازفة من النوع الذي دأبت على تجنبه.