18 سبتمبر 2025
تسجيلكثرت التعليقات على جولة رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان على دول "الربيع العربي" مصر وتونس وليبيا.بين من رأى فيها تكتيلا إضافيا في الاصطفافات الإقليمية الحادة أصلا وبين من رأى أنها هرولة على غرار الرئيسين الفرنسي والبريطاني للحصول على حصة من الكعكة الليبية الدسمة وآخرون رأوا فيها تجسيدا للطموح التركي للعب دور قائد وليس فقط رائدا في المنطقة عبر الاستيلاء على الدور العربي الغائب. غير أن الملاحظ أن الارتباك في الديبلوماسية التركية الذي رافق نشوب الثورات العربية لا يزال مستمرا بعد حصولها ونجاحها في بعض الدول واستمرارها في دول أخرى. من الواضح أن هناك اعتدادا تركيا زائدا بالنفس يجعلها تشعر بوجود فائض قوة لديها يجعلها تقدم على خطوات أكبر من قدرتها على إنجازها. وإذ تدرك ذلك ضمنا ومتأخرة ترفع من سقف خطابها الإيديولوجي ليلامس الإعلان عن تسيير دوريات بحرية ترافق سفن المساعدات الغذائية التركية إلى غزة من دون أن تعلن عما إذا كانت هذه السفن الحربية سترافق سفن المساعدات إلى غزة نفسها أم إلى المياه الإقليمية الفلسطينية هناك. اليوم يصل أردوغان ضمن مناخ يضع تركيا في قلب الأحداث الجارية سواء لجهة مواقفها المتناقضة من الثورات أو لرغبتها في أن تكون لها حصة من الكعكات الإقليمية. لذلك فإن زيارات أردوغان إلى الدول الثلاث المذكورة جاءت في "وقت ضائع"من تاريخ هذه الدول حيث ليس فيها سلطة "نهائية" بل "مؤقتة" لا يعرف أحد ماذا ستكون صورة السلطة السياسية المقبلة فيها وما هي خياراتها الاستراتيجية.وهذه مرحلة تتطلب من سنتين إلى أربع سنوات على الأقل.بل إن هذه الدول ولا سيما مصر تشهد صراعات حادة وانقسامات طبقية واجتماعية وايديولوجية، لذا كان مستغربا أن يعلن الطرفان التركي والمصري عن خطوة نوعية مثل تأسيس مجلس تعاون استراتيجي أعلى بين البلدين في ظل سلطات وحكومة مصرية لا تعكس بعد إرادة الشعب المصري بل تعتبر امتدادا لفلول النظام المباركي البائد. ولم يعرف أحد أيضا مغزى أن يطالب أردوغان المصريين اعتماد نظام علماني على غرار النموذج التركي كشرط لبناء مصر الجديدة. ومع أن أردوغان قال إن العلمنة لا تعاني معاداة الدين فإن العلمنة المطبقة في تركيا والتي يتغنى بها أردوغان لا تنتمي إلى أي نوع من العلمانيات المعروفة في العالم وليس أبلغ مثال على ذلك أنها لا تزال تميّز ضد المحجبات في الدوائر الرسمية والجامعات ومراكز القضاء وغيرها كما لا تقف على مسافة واحدة من كل الأديان والمذاهب في الداخل التركي. وانعكس مثل هذا الارتباك التركي رفضا للدعوة من حيث لم يحتسب أردوغان وفريقه أي من الفئة التي تتقاطع إيديولوجيا مع حزب العدالة والتنمية أي الإخوان المسلمين عندما رفض أحد قادتهم البارزين عصام العريان الدرس الأردوغاني ودعاه إلى عدم التدخل في الشؤون الداخلية المصرية في انعكاس أيضا للحساسية الوطنية المصرية التي حاول أردوغان إلغاءها وشطبها عبر تنصيب نفسه وصيا عليها. قد تكون العلمانية حلا في دول لها خصوصيات معينة ولكنها قد تكون سببا لاضطراب اجتماعي في مجتمعات أخرى.وإذا كان أردوغان رضي لبلاده هذا النمط الخاص من العلمانية فهذا لا يعني أنه سيكون صالحا لمجتمعات أخرى. وهنا نذكّر بأن الأتراك من عبدالله غول إلى أحمد داود أوغلو كانوا يكررون دائما القول إنهم لا يريدون أن يكون النموذج التركي مثالا لأية دولة أخرى. وما فعله أردوغان هو تكرار الخطأ نفسه عندما كان القادة الأتراك ينصّبون أنفسهم زعماء على بلادهم و"أساتذة" على دول أخرى. وفي ذلك عدم رؤية الحدود الفاصلة بين ظروف كل مجتمع ومتطلباته علما أن تشريح النموذج التركي على أكثر من صعيد وتبيان تناقضاته وثغراته لا يحتاج إلى ميكروسكوب. في ظل هذا الارتباك التركي لا ندري لماذا لم يرد أردوغان على دعوة رئيس المجلس الانتقالي الليبي مصطفى عبدالجليل إلى أن يكون الدين الإسلامي مصدر التشريع الأساسي في الدستور الليبي الجديد رغم أن الجواب واضح وهو أن العين التركية في ليبيا هي على كعكة النفط والاستثمارات ولن يهمها شكل النظام حتى لو كان على غرار الصديق الحميم السابق لأردوغان، معمر القذافي. إذا كان العرب يعانون في المرحلة الراهنة ويمرون في مرحلة انعدام توازن وانتقالية فلا يعني هذا أن يأتي من يحاول سرقة دورهم ليس لتحقيق غاياتهم وطموحاتهم بل لتحقيق مشاريع استعادية مرفوضة في العالم العربي قبل أن يرفضها من هم خارجه.