11 سبتمبر 2025
تسجيلما زال العديد من الأوساط الإعلامية والسياسية الغربية ينزعج من كل ما يحدث في أقطار مختلفة من العالم خاصة إذا تعلق الأمر بالديانات والمعتقدات وأنماط تسيير شؤون العباد والبلاد. ففرنسا على سبيل المثال تطلب من تركيا الاعتذار عن مجازرها ضد الأرمن لكنها تمتنع هي البلد المستعمر من تقديم الاعتذار عن جرائمها في مستعمراتها السابقة خاصة مجازرها وجرائمها في الجزائر. دول غربية كثيرة جعلت من الإسلام والنظام السياسي الإسلامي خطرا عليها وعلى البشرية جمعاء وجعلت الديانة الإسلامية وكل ما يتصل بها شماعة لإخفاقاتها وعنوانا للتخلف والعنصرية وإقصاء الآخر. هذه الدول، مع الأسف الشديد وهي الدول التي تتغنى بالديمقراطية والحرية واحترام المعتقد والدين سخرت الآلة الإعلامية لصناعة الحقد والكراهية والتضليل والتشويه بدلا من نشر ثقافة التفاهم والحوار بين الثقافات والحضارات والديانات. قبل سنوات أصدرت مجلة " شارلي إيبدو" الفرنسية عددا خاصا عنونته "شريعة إيبدو" تسخر فيه من الإسلام والمسلمين وأوكلت رئاسة تحرير العدد حسب مسؤوليها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وجاءت هذه المبادرة من قبل المجلة الفرنسية بعد فوز حزب النهضة الإسلامي في تونس بنسبة كبيرة من مقاعد المجلس التأسيسي وبعد إعلان المجلس الانتقالي في ليبيا تطبيقه الشريعة الإسلامية في الدستور الليبي الجديد. ما حدث عن الصحيفة الفرنسية ومن قبلها الصحيفة الدانمركية وغيرها كثير فيما يتعلق بالتجاوزات ضد الإسلام والمسلمين والعرب يتنافى جملة وتفصيلا مع العمل الإعلامي الحرفي، المسؤول والملتزم. يتنافى مع رسالة الإعلام الشريفة والنبيلة، يتنافى وقدسية الرموز الدينية مهما كانت وأينما كانت. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو لصالح من؟ مثل هذه الاستفزازات والتصرفات غير المسؤولة، وما هي الأهداف من ورائها وماذا ستضيفه لخدمة الإنسانية ومبادئها وقيمها؟ وماذا ستضيفه لتأسيس وبناء قنوات التواصل والتفاهم بين الشعوب والأمم والحضارات والديانات؟ إلى أي مدى ستخدم هذه الافتراءات والتهكمات وهذا الاستخفاف وهذه الصور حوار الحضارات والثقافات والديانات والتقارب بين الشعوب؟ مثل هذه التصرفات بدلا من نشر ثقافة التفاهم والتسامح والتقريب تعمق الفوارق والتضليل والتشويه وسوء التفاهم وانعدام الحوار وانتشار الصور النمطية التي تفرز ثقافة الحقد والكراهية والبغضاء والعنصرية والجهل. قيل كلام كثير عن الحوار بين الحضارات وحوار الديانات واحترام الآخرين ومعتقداتهم ودياناتهم. وقيل الكثير كذلك على أن العولمة ستؤدي إلى تقارب الشعوب ودمقرطة الأنظمة، والتفاهم والتسامح والتعاون. كما قيل كذلك أن تكنولوجيا الاتصال والإعلام ستجعل من العالم قرية صغيرة تتعرف من خلالها شعوب العالم على بعضها البعض، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة التفاهم والتحاور وإلى قلة النزاعات والحروب وبؤر التوتر في العالم. كما قيل كذلك كلام كثير عن دور الإعلام في تقارب الشعوب والثقافات والحضارات والديانات، وأن الإعلام يلعب دورا إستراتيجيا في نشر ثقافة التسامح والسلم واحترام الآخر ومحاربة العنصرية والاستغلال والاستعمار والإرهاب واحتقار الآخر والاستهزاء به. في 12 سبتمبر 2005 نشرت صحيفة "جيلاندز بوستن" الدانمركية 12 رسما كاريكاتوريا مسيئا للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، مما أثار غضب المسلمين داخل الدانمرك وفي جميع أنحاء العالم. وفي 10 يناير 2006 أعادت صحيفة "مغازينات" النرويجية نشر الرسوم الكاريكاتورية الـ12 للرسول صلى الله عليه وسلم. تحدث هذه الإهانة والسخرية والانتقاص من قيمة الآخر والمساس بقدسية رموزه الدينية باسم حرية التعبير وحرية الصحافة. إن النيل والتهكم والسخرية من ديانات وأنبياء ورسل ومعتقدات وثقافات الآخرين يتناقض جملة وتفصيلا مع الرسالة النبيلة للصحافة ومع حرية التعبير وحرية الصحافة حيث إنه لا توجد ديمقراطية أو نظام سياسي يسمح ويبيح التحريض على كراهية أو شتم والانتقاص والاستهزاء بقيم ورموز الآخرين المقدسة. والمؤسف لحادثة "شارلي إيبدو" والرسوم الكاريكاتورية من قبلها وغيرها كثير من مظاهر الحقد والكراهية هو أن السلطات الدانمركية والفرنسية والمجتمع الرسمي والمدني في الدانمرك أو في فرنسا لم تحرك ساكنا أمام ما حدث، وكأن شيئا لم يحدث. وهذا يعني أن الأمر عادي بالنسبة لهم وأن الإساءة للآخرين ولمقدساتهم ودياناتهم لا تعني شيئا. والدليل على ذلك أن استطلاعا للرأي العام كشف أن أغلبية الدانمركيين لا يحبذون الاعتذار للمسلمين لما حدث كمخرج وكحل للأزمة. ما نجم عن صحف فرنسا والدانمرك والنرويج ومن دول أخرى يخالف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومواثيق وأخلاقيات الممارسة الإعلامية في معظم دول العالم، كما يتنافى مع مبدأ حرية الصحافة الذي يقوم على الالتزام باحترام الآخر واحترام معتقداته ودياناته. كما تخالف تلك التصرفات مقررات منظمة الأمم المتحدة في حوار الأديان والحضارات. بكل بساطة هذه التصرفات تنم عن جهل وحقد وكراهية وعن عدم المقدرة على التعايش مع الآخر، بل التفكير في تدميره والقضاء عليه والتخلص منه، كما أنها تعبر تبرير الفشل باستخدام الآخر كسبب له. الأخطر في القضية كلها هو نتائج استطلاعات الرأي العام التي جاءت لتؤكد ماذا يدور في أذهان الناس العاديين. النتائج أكدت عدم الاعتراف بالخطأ وعدم احترام معتقدات وديانات الآخرين وهذا أمر خطير لأنه يشير إلى ضعف درجة التسامح والتفاهم والحوار بين الشعوب. وهنا نلاحظ الدور العكسي والسلبي والخطير الذي تلعبه وسائل الإعلام في عصر العولمة والثورة المعلوماتية والمجتمع الرقمي، وعصر القرية العالمية. فبدلا من تشجيع الحوار والنقاش والتفاهم والتعرف على خصوصية الآخر وثقافته نلاحظ، أن الآلة الإعلامية في المجتمع المعاصر أصبحت تهدم أكثر مما تبني وأصبحت تساهم في إثارة الفتن والحروب والنزاعات أكثر من مساهمتها في نشر السلم والأمن والاستقرار والتقارب والمحبة والتلاحم والتفاهم بين الشعوب، بل أصبحت وسائل الإعلام آلات لنشر ثقافة الحقد والكراهية والخوف. الحرية التي تطالب بها معظم المؤسسات الإعلامية في العالم والتي يتغنى بها الكثير أصبحت فارغة من محتواها الحقيقي حيث إنها آلت إلى أشخاص لا يعرفون المعنى الحقيقي للحرية ولا يعرفون الالتزام باحترام الآخر وخصوصيته. فالإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم هي إساءة إلى كل البشرية والسخرية من رسول الله صلى الله عليه وسلم سخرية برسل الله كافة وبالبشرية جمعاء. يكيل الغرب بمكيالين، فالإساءة إلى رموزه أو قيمه ومعتقداته تعتبر خروجا عن الأصول وعن الأخلاقيات والمهنية والحرفية، أما المساس بمعتقدات وقيم الآخر فهي من المبيحات. فالذي يجرؤ على الكلام في موضوع المحرقة – الهولوكوست - يحاكم قضائيا وهذا لا يعتبر مساسا بحرية الصحافة، أما الذي يسيء إلى الرسول والأنبياء والأديان والمعتقدات فهذا شيء طبيعي وممارسة لحرية التعبير والصحافة! فالتاريخ يذكرنا بمحاكمة رجاء جارودي لا لشيء إلا لأنه قال الحقيقة وكذّب خرافة الهولوكوست والأساطير التي أسست لدولة من العدم. كما يذكرنا التاريخ بسلمان رشدي وتسليمة نسرين والاحتفاء بهما في العواصم الغربية لا لشيء إلا أنهما أساءا للإسلام وللرسول صلى الله عليه وسلم وهما لا يفقهان شيئا في الإسلام. فالإشكال المطروح هنا هو النية السيئة والخبيثة للمساس بالآخر وللسخرية والتهكم والاستهزاء والإساءة. أين هو المشكل إذا اختار التونسيون والليبيون الشريعة الإسلامية كدستور لتسيير أمورهم وشؤونهم؟ أليسوا أحرارا في اختيار من يحكمهم وما هو النظام السياسي الذي يليق بهم؛ أليس لديهم الحق في اختيار من يمثلهم؟ أليست هذه الحرية التي يمجدها الغرب؟ هل تدخل المسلمون في الشؤون الداخلية للدانمرك أو فرنسا وغيرهما؟ والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما الفائدة من كل هذا؟ وما هو الدور الحقيقي لوسائل الإعلام؟ هل هو التوعية والتربية والتثقيف والتعليم ونشر ثقافة التسامح والعمل على التقارب بين الشعوب والأمم والحضارات والديانات، أم أن الهدف هو نشر ثقافة الحقد والكراهية والصور النمطية والتضليل والتشويه والاستهتار والاستخفاف والاستهزاء بالآخرين؟ ممارسات خطيرة تقوم بها وسائل الإعلام في عصرنا الحالي تتمثل في تلويث عقول البشر والتضليل والتشويه والفبركة وصناعة الحقد والكراهية والوهم أكثر من التنوير والتعليم والتثقيف.