13 سبتمبر 2025

تسجيل

قضاء يوسف عليه السلام (2)

17 يوليو 2014

كان الحديث بالأمس عن يوسف عليه السلام المتهم في قضية امرأة العزيز وكيف أن الله برأه أمام الناس مرتين، مرة إثر وقوع الحادثة والقضاء عليه ظلما، ومرة أخرى بعد أن رفض الخروج من السجن إلا بعد إعلان براءته، فليس الفرح بالحرية مهمًّا بقدر الفرح بالبراءة من التهمة التي قذف بها زورا وبهتانا. واليوم نحن في مجلس يكون سيدنا يوسف فيه قاضيا، بعد أن كاد لأخيه ووضع صواع الملك في رحله، وهو صواع من ذهب، يشرب فيه الملك الخمر من طرف، ويكال القمح بالطرف الآخر وهذا يعطيك إشارة إلى نفاسة القمح والميرة والغذاء في ذلك الزمان. ويصور القرآن لحظة اكتشاف السرقة ثم ينادي المنادي: أيتها العير إنكم لسارقون، ولنتأمل التعبير: إن الاتهام جاء مؤكدا بإن واللام وجاء في صيغة جملة اسمية تدل على ثبوت الجريمة، وهذا تطلب ردا يوافق هذا الاتهام من إقبال سريع، وتلهف في السؤال: ماذا تفقدون؟ ثم تبدأ المحاكمة التي اعتمدت شريعة يعقوب كأساس للحكم، لأن إخوة يوسف سُئِلوا: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين؟ قالوا من وجد في رحله فهو جزاؤه، أي يكون رقيقا عند من سرق منه. إذًا وضع القانون الذي ستتم المحاكمة على أساسه، ولتبدأ المحكمة في التحقيق والتفتيش، وبدأ سيدنا يوسف بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، ثم استخرجها من وعاء أخيه. إذًا جاء الدليل بأن أخاه قد سرق، وجاء وقت تنفيذ العقوبة. لقد تأملت هذه الآية طويلا، وقلت لماذا فعل يوسف عليه السلام ذلك، أليس هذا في عرفنا "تلفيقا للتهم" ورميا بالزور، وإننا ننزه نبي الله يوسف عن هذا وهو الذي رفض الحرام وعاش في شظف العيش؟! قال الماوردي: فإن قيل: كيف استجاز يوسف أن يجعل السقاية في رحل أخيه وهم برآء، وهذه معصية؟ قيل عن هذه أربعة أجوبة: أحدها: أنها معصية فعلها الكيال ولم يأمر بها يوسف الثاني: أن المنادي الذي كال حين فقد السقاية ظن أنهم سرقوها ولم يعلم بما فعله يوسف، فلم يكن عاصياً . الثالث: أن النداء كان بأمر يوسف، وعنى بذلك سرقتهم ليوسف من أبيه، وذلك صدق . الرابع: أنها كانت خطيئة من قبل يوسف فعاقبه الله عليها بأن قال القوم (إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل) يعنون يوسف . وذهب بعض من يقول بغوامض المعاني إلى أن معنى قوله: (إنكم لسارقون) أي لعاقون لأبيكم في أمر أخيكم حيث أخذتموه منه وخنتموه فيه. وذكر الفخر الرازي وجوها قريبة من الوجوه السابقة ؛ فقال: ذكروا في الجواب عنه وجوهاً: الأول: أنه عليه السلام لما أظهر لأخيه أنه يوسف قال له: إني أريد أن أحبسك ههنا ، ولا سبيل إليه إلا بهذه الحيلة فإن رضيت بها فالأمر لك فرضي بأن يقال في حقه ذلك ، وعلى هذا التقدير لم يتألم قلبه بسبب هذا الكلام فخرج عن كونه ذنباً . والثاني: أن المراد إنكم لسارقون ليوسف من أبيه إلا أنهم ما أظهروا هذا الكلام والمعاريض لا تكون إلا كذلك . والثالث: أن ذلك المؤذن ربما ذكر ذلك النداء على سبيل الاستفهام ، وعلى هذا التقدير يخرج عن أن يكون كذباً . الرابع: ليس في القرآن أنهم نادوا بذلك النداء عن أمر يوسف عليه السلام والأقرب إلى ظاهر الحال أنهم فعلوا ذلك من أنفسهم لأنهم لما طلبوا السقاية وما وجدوها وما كان هناك أحد إلا هم غلب على ظنونهم أنهم هم الذين أخذوها. ولكن تأملت صدر السورة فوجدت تحذير يعقوب ليوسف من أن يقص رؤيته على إخوته حتى لا يكيدوا له، وهو ما حدث بالفعل، فأراد يوسف عليه السلام أن يذيقهم مرارة الكيد التي ذاقها من قبل. ولقد ذكَّرتهم مرارةُ هذا الكيد بحقدهم على أخيه يوسف من قبل، فقالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل، فأسرها يوسف في نفسه، لعلمه ببراءته وأخيه مما قذف به، ثم قال لهم: أنتم شر مكانا، وهذه ليست شتمة بل حقيقة. وعند تنفيذ العقوبة تذكروا أباهم وما أخذ عليهم من العهد والميثاق، فقالوا: إن له أبا شيخا كبيرا، فخذ أحدنا مكانه، فوضع سيدنا يوسف مبدأ مهما يتمثل في أن كل واحد يتحمل عقوبة نفسه، فلا تزر وازرة وزر أخرى، وهذه هي المسؤولية الفردية التي ارتضاها الإسلام، فالدين عند الله الإسلام من آدم وحتى محمد صلى الله عليه وسلم. إن رد إخوة يوسف بعد تنفيذ العقوبة استدعاه أحدهم لما أراد الحجاج أن يعاقبه. أدخَلوا على الحجاج بن يوسف الثقفي رجلا مُقَيّدا، فقال له الحجاج: ما شأنُكَ يا هذا ؟ فقال الرجل: أصلح الله الأمير، أرعني سمعك، واغضض عني بصرك، واكفف عني سيفك، فإن سمعتَ خطأ أو زللاً دونك والعقوبة.قال: قل .فقال: عصى عاصٍ مِن عُرض العشيرة ؛ فحُلِّقَ على اسمي (أي جُعلت حلقةٌ على اسمه في الدولة، كما نقول الآن وُضع في القائمة السوداء أو وُضعت عليه نقطة)، وهُدِّمَ منزلي، وحُرِمتُ عطائي (عطائي من بيت المال). (مجمل كلامه أنّه أُخِذ بذنب غيره)قال الحجاج: هيهات هيهات، أو ما سمعت قول الشاعر: جانيك من يجني عليك وقد تعدي الصحاحَ مباركُ الجُربِ (جانيك مَن يجني عليك: أي أنه لا يجدر بك أن تقتص إلا مَن تسبب لك بالأذى، تعدي الصحاح مبارك الجرب: هذا استثناء لصدر البيت، ويعني انّ الجمال الجرباء تتسبب بالعدوى للجمال السليمة، فبهذا يمكنك أن تُحاسب بالذنب غير صاحبه)ولَربَ مأخوذ بذنب عَشيرة -- ونَجا المقارفُ صاحب الذنبِ ... ؟ قال الرجل: أصلح الله الأمير، ولكني سمعت الله عز وجل يقول غير هذا!قال: وما ذاك ؟ قال: قال عز وجل "ياأيها العزيزُ إن له أباً شيخاً كبيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مكانهُ إنًا نَراك مِن المُحسنين، قال معاذ اللهِ أنْ نأخُذَ إلا مَن وَجدنا مَتاعَنا عِندهُ إنًا إذاً لظالمون".فقال الحجاج: عَليَّ بيزيد بن أبي مسلم، فمثل بين يديه.فقال له: افكُك لهذا عن اسمه، واصكك له بعطاء، وابن له منزله، ومُر منادياً ينادي: صدق الله وكذب الشاعر . والحديث موصول إن شاء الله