13 سبتمبر 2025
تسجيلإنكار الوجدان هو أحد أساليب القضاء على المعارضين، ويشير إلى محاولة انتزاع الخصم من وجدان الناس ومن وعيهم، بهدف خلخلة معنوياته وثقته بنفسه من جانب، وتهميش قضيته في عقول الناس حتى يطويها النسيان من جانب آخر. اما عن آليات ذلك فكثيرة، منها التأكيد على أن الخصم لا يشكل جزءا أصيلا من المجموع وإنما هو طارئ أو مقحم عليه، أو الزعم بأنه هامشي يمكن إهمال وجوده الذي يتساوى والعدم، وصولا إلى القول بأن الخصم خطر على المجموع ومن ثم يتعين استبعاده أو القضاء عليه. ويكون هدف الإنكار في العادة التمهيد لتصفية الخصم تصفية فعلية أو تهميشه واستبعاده، مثال على الأول ما كان يقوم به هتلر من إنكار أن يكون اليهود جزءا أصيلا من الشعب الألماني، حيث كانت هذه مقدمة لتصفيتهم جسديا في أفران الغاز الشهيرة. والمثال على الثاني ما قام به اليهود، بعد أن تحولوا من ضحية إلى جلاد، من إنكار وجود الفلسطينيين، لتهميشهم وعزلهم. ولجولدا مائير مقولة شهيرة تقول فيها "لم يكن هنالك أي شيء يسمى بالفلسطينيين. ولم يكن هنالك شعب يسمي نفسه بالشعب الفلسطيني". هذا الإنكار بغرض الاستبعاد، اعتمدته إسرائيل بغرض القضاء على خصومها الذين يمثل وجودهم شرخا فيما تدعيه من شرعية. في هذه الأيام يلعب قادة الانقلاب العسكري في مصر، بالتضامن مع وسائل الإعلام، لعبة مماثلة مع خصومهم من مؤيدي الدكتور محمد مرسي، قوامها تجاهلهم المتعمد بغرض تهميش حضورهم في وعي المصريين، والأخطر أن يكون هذا بنية التخلص النهائي منهم. فمنذ اليوم الأول أعلن قائد الانقلاب أنه استمع إلى صوت الشعب العظيم (المعارض للرئيس)، ما أشار إلى أنه لم يأبه لمن نزلوا مؤيدين للرئيس ومتمسكين بشرعيته، وكأنهم ليسوا جزءا من هذا الشعب العظيم بدورهم. تلت هذا البيان الانقلابي حملة اعتقالات موسعة ضد رموز هذا التيار، مشفوعة بحملة تكميم للقنوات الفضائية المؤيدة للرئيس أو المنتمية إلى خطه السياسي حتى وإن كانت تعارضه. حدث هذا بالتزامن مع حملة إعلامية هدفت إلى التعتيم الكامل على الفريق المناوئ للانقلاب، حيث تم حجب كافة أخبار المسيرات والاعتصامات التي نظمها أنصاره. أما القدر الذي سمح بنشره فكان يراعى فيه أن يتم تشويهه لأكبر درجة ممكنة في إطار حرب نفسيه، تهدف إلى إزالتهم من وجدان المصريين أو على الأقل تشويه وجودهم لأقصى درجة. ومازال هذا الإعلام المتحيز يحاول أن يرسخ فكرة أن هناك شعبا أصلي وآخر منبوذ؛ الأول يتعين الاستماع إلى شكواه وتضخيمها واستدعاؤها على نحو متكرر، والآخر يسقط منه ثمانون قتيل في يوم واحد فلا يهتز لأحد من أهل الإعلام جفن. طرف تلاحقه الكاميرات وتحتفي به، وطرف تشن حملة كراهية ضده وتغلق دونه كافة المنافذ التي كانت تعبر عنه. وفي إطار هذه الحرب النفسية يستخدم الانقلابيون، وحلفائهم من الإعلاميين، كافة الأساليب السابق الإشارة إليها من أجل إنكار الوجدان، فهم يروجون فكرة أن مؤيدي الشرعية لا يمثلون مكونا أصليا في نسيج المجتمع المصري، كما يذهبون إلى أنهم نسبة قليلة لا تؤثر في إرادة الشعب المصري الذي خرج منه (36) مليون مواطن للمطالبة بتدخل الجيش! وأخيرا يتم الإلحاح على فكرة أن مؤيدي الشرعية هم جماعة إرهابية يجوز بل يتعين تصفيتها أو القضاء التام والمبرم عليها. ولكن هل يمكن بالفعل استبعاد ملايين المطالبين بالشرعية، لمجرد أنهم رفضوا الخضوع لمنطق القوة. وهل ما أقدم عليه قادة الانقلاب من العسكر والإعلاميين من إهمال هذه الكتلة كان أمرا صائباً. تشير أحداث الأيام الفائتة إلى أن هذا ليس أفضل سيناريو ممكن. فسيناريو الإقصاء عادة ما ينتهي إلى الفشل، ولو كان بالإمكان أن ينجح لنجح في إسرائيل، التي ترتبط شرعية وجودها باختفاء معارضيها، ولكنه فشل وظلت المعارضة موجودة على الأرض متمتعة بوجود حقيقي يذكر شانئيهم في كل لحظة أن ما أخذوه منهم كان استلابا ولم يكن لقطة. في مصر أيضا يظل وجود المعتصمين من مؤيدي الشرعية في الميادين والشوارع بمثابة دليل على أن الانقلاب الذي حدث لم يكن حلا للأزمة وإنما انحيازا إلى حد أطرافها. وأن هذا الانحياز هو الذي صنع الانقسام الذي تعيشه البلاد. صحيح أن سياسات الدكتور محمد مرسي ربما تكون قد أسهمت في انقسام المصريين، ولكن الانقلاب العسكري هو الذي حوله إلى واقع معاش، فقد تحول المصريين إلى شعبين، شعب رابعة وشعب التحرير. هذا الانقسام مرشح للتزايد، فقد صار لدينا واقع يحتفي بالقضاء على ثورة يناير وعودة النظام القديم، وواقع آخر يعيشه المعارضون للانقلاب العسكري، سواء منهم الموالون للإخوان أو المؤيدون للشرعية، وهؤلاء يرفضون التعاطي مع تفاصيل ما بعد الانقلاب. لقد استبدلت قوى الانقلاب وحلفاؤهم من الإعلاميين معيار "التصويت"، وأحلت محله معيارها الخاص وهو "التصوير"، فأصبحت القدرة على الحشد هي المؤشر على امتلاك الأغلبية، ولكنها وهي تفعل ذلك لم تكن مخلصة لمعيارها الجديد، أو قادرة على أن تلزم نفسها بنتائجه، فعندما نزل مؤيدو الشرعية إلى الشوارع، لم تطبق عليهم معيارها، وامتنعت عن متابعتهم بكاميراتها لكي تنكر وجودهم وتنكر حضورهم توطئة لاستبعادهم وتهميشهم. فهل هذا هو المناخ الذي يراهن عليه الانقلابيون لإحداث التحول السياسي وإجراء المصالحة؟ إن المجتمع المصري لن يستقر في إطار استبعاد مبني على الإنكار، وانقسام مبني على الاستبعاد. فإنكار الوجدان لا يعني إنكار الوجود، والحقوق لا تسقط بالتقادم، والشرعية لا يمكن أن تفرض بغطرسة القوة.