15 سبتمبر 2025
تسجيلأدخلُ المنزل لأُلقي التحية، فأسمعُ من أخي الأصغر "إبراهيم" الكلمة المعتادة "ملل"، ليُدهشني دهشة تتشقلب منها قسماتي، أحضنه بعض الوقت ثم أعدد لهُ كل مالديه: وسائل التسلية، الألعاب الإلكترونية، الكتب التي حوله، مركز التحفيظ، الرحلات الترفيهية، ليقاطعني بعبارة: "بعد ملل!". لأندهش دهشة أكبر من ذي قبل دون اكتراث منه لدهشتي وجوابي. وأنا في خضم العمل، أستمع من زميلتي لكلمات عديدة وقصص غريبة ولكن الكلمة الأكثر وقعا في فؤادي كلمة ملل! وأنا في المنزل تتصل بي إحدى القريبات لأستمع منها بعد بعض "السوالف" كلمة "ملل "، وكأن الكلمة هذه هي الفاصلة والنقطة بين عبارة وأخرى. في "البلاك بيري مسنجر" أكثر كلمة متكررة بين الجميع هي كلمة "ملل"، وأحياناً يدخل علي أحدهم ليبدأ المحادثة فيكون الحوار كالتالي: — ملل صح؟ — انا مو متمللة.. — شدعوة! — اللي عنده هدف في حياته لا يعرف الملل — اها. بدينا حصة في الفلسفة. — لا والله بس هذا الواقع. أحاول الانسحاب من الحوار لأنهُ بدأ يأخذ منحى الحوار العقيم، ولكن تبدأ عندي علامات الاستغراب في كل مرة، رغم أنهُ كان لزاماً علي أن اعتاد الأمر، ولكني لم أصل لمرحلة الاعتياد بعد.. تُحدثني احدى صديقاتي أن حياتها الزوجية مُملله وكئيبة رغم حبها لزوجها وحب زوجها لها، فتزيد في الوصف: حين تكون مع زوجها في مطعم للاستمتاع بوجبة العشاء يُردد هو كلمة "ملل"، لتجيبهُ هي مؤكدة: "إي والله ملل"! رغمَ أن الاثنين في مطعم راق يستمتعان بتناول وجبة يحلمُ بها مليارات الفقراء، لكن الأمر ليس في قلة البرامج، والعلة ليست في كيفية قضاء الوقت؟ وكيفية استثمار الساعات والدقائق، إنما الخلل يكمنُ في تلكَ الأرواح التي هي ميتة وهي لا تزال على قيد الحياة. فتجد إحداهن مسافرة مع ثلة من صديقاتها لدولة باتت أمداً طويلاً تحلمُ بالسفر إليها، ولكنها حينما عادت أدراجها للوطن، سألها أحدهم: " إن شاء الله استمتعت؟ " تُجيب: " ممم والله مو ذلك الزود، مملة السفرة شوي"! إحدى الفتيات المقتدرات، تُبهرني أحياناً عندما تذهبُ إلى "كشك الفلافل" لتطلب سندويتش فلافل على مزاجها (سندويتش فلافل مع سلطة وطحينية وقليل من الشطة)، ومشروبها الغازي المفضل (دايت كولا) وتجلس على كرسي الكشك المتواضع، وهي تشعر بقمة المتعة وهي تأكل الأكل اللذيذ، تشعر بمنتهى السعادة واللذة وهي مستمتعة بأكلها البسيط، وأكاد أجزم أن أي مخلوق يراها تأكل سيشتهي أن يأكل مما تأكل فقط لأن في طريقة أكلها لذة ومتعة وحياة رغم أنها تأكل أكلاً بسيطاً على بساط البسطاء. بينما تأكل تلكَ الزوجة مالذ وطاب من أشهى الأكلات وأكثرها تنوعا، من مطعمٍ قد يفوق رقيه مطاعم الخمس نجوم، وهي تردد كلمة "ملل" هي ومن معها. "منصور" أحد الذين يعملون في البقالة التي نتردد عليها، يعمل منصور وكأنهُ يلعب، من شدة المتعة والسعادة، فتراهُ مبتسما سعيداً ضحوكاً، وهو عامل بسيط في بقالة صغيرة، بينما الموظف الذي يملك راتبا يفوق راتب منصور بأربعين ضعفا، ويملك مكتباً رحباً، يُتمتم بين كلمة وأخرى بكلمات الملل والضجر. زارني أخي "أحمد" منذ فترة ومررت على البقالة لشراء بعض الحاجات، فاندهش أخي كل الدهشة عندما رأى منصور، مرددا: "سبحان الله" ، ثم أضاف: "يعمل ببهجة دون ملل! رغم أنهُ لا يملك شيئا إلا وكأنه يملك كل شيء". “Dean” أحد الموظفين الجدد الذين انضموا إلى فريق العمل بالشركة، من أصل أجنبي “المملكة المتحدة تحديدا"، فكان كلما سمع أن هناك اجتماعا سوف يعقد قريباً يُبهرني بعبارات تُشعشع منها الحياة والحيوية: فيقول "ليس لدي صبر حتى يأتي الاجتماع"، وأحياناً يُردد: "أنا متحمس جداً". بينما الباقية المتبقية من فريق العمل يترنحُ في مشيه مللاً وكأنهُ يصرخ: " لايعة جبدي"، وكأنهم أحياء دون حياة وأجساد دون أرواح. فسبحان الله! أدركتُ يقينا أن الخلل ليس فيمَن يقضون أوقاتهم ولكن كيفَ يقضون أوقاتهم، تلكَ النفس البشرية تستطيع أن تستمتع بكل شيء حتى بالأمور البسيطة فتصل لقمة النشوة والسعادة، وتستطيع أن تسخط حتى من الفاخر الراقي لتبلغ قمة الملل والتذمر والضجر. اللهم اشرح صدورنا ونفوسنا.. اللهم آمين.