13 سبتمبر 2025
تسجيلحفلت المرحلة الانتقالية بعد ثورة 25 يناير بالعديد من المسلسلات الدرامية المتلاحقة، لم تتوقف المفاجآت حتى عشية الاقتراع الرئاسي، والأرجح أنها ستستمر، كانت هناك لحظات وفاق ولحظات شقاق. وكانت معطيات المشهد تتجاذب ما بين صراع على المستقبل وآخر على الماضي، بين ثورة تريد أن تثبت نفسها بتغيير جذري كامل وثورة مضادة تدافع عما تعتبره مكتسبات تحققت خلال العقود الماضية. لم تكن للثورة وجوه وقيادة متجذرة في الواقع السياسي، ما أتاح للقوى الموجودة والمنتظمة أن تقفز إلى الواجهة،فاجتاح الإسلاميون صناديق الاقتراع، وبالتالي مقاعد مجلس الشعب. فانتقلت القوى الأخرى، بعضها جديد وبعض آخر قديم، إلى الاحتجاج محافظة على تشتتها وتشرذمها ونطقها بأصوات كثيرة ومواقف متناقضة. في غمرة الحماسة، بعد الثورة، بدا من الصعب تحديد ما يجب تغييره وما إذا كان هناك ما يتوجب الحفاظ عليه. بل بدا كأن هناك شعباً شعر بأن لحظته جاءت للخلاص من التهميش والإقصاء، وأنه يريد اقتلاع شعب آخر ليحل محله في كل شيء. الدولة والحكم والمؤسسات والوظائف والفرص والثروات، لكن المعضلة تكمن في أنهما شعب واحد، أي لا يمكن معالجة إقصاء بإقصاء. ومن الاستحقاقات الصعبة والمهمة التي ارتسمت بعد الثورة، ولم يمكن إيجاد تصور عملي لها، الجواب عن السؤال: هل أن مصر باتت جاهزة لديمقراطية كالتي تتمناها، ولرئيس لا يكون، كما يقال، "فرعونا"؟ لاشك أن العملية الانتخابية أثبتت في حد ذاتها شيئاً من هذه الجهوزية، لكن المنتخبين لم يثبتوا في مجلس الشعب أنهم بصدد بناء التجربة الديمقراطية، لم يدركوا أن "العهد الجديد" لم يبدأ معهم بل أنهم في معمعة مرحلة انتقالية لابد من احترام مقتضياتها، وإلا فإن المراحل التالية ستتشوه بأخطائها. لذلك بدا كل شيء أمكن إنجازه خلال أربعة عشر شهراً وكأنه قابل للتفجر مع اقتراب انتخاب الرئيس. واقعياً لم يعمل اللاعبون كافة ما يلزم لإعداد المسرح لهذا الاستحقاق المفتاحي الحاسم إذ دخل البرلمان التعددي المنتخب فعلاً للمرة الأولى، في صراعات وجدالات لا علاقة لها بما يتوقع منه. كان الأجدى أن ينخرط مباشرة في عملية اعداد الدستور الجديد، وأن يختار لهذه المهمة هيئة وطنية تخضع لمعايير ما يفترض أنه "تأسيس" لنظام يعبر عن جميع الفئات، إلا أن البرلمان، أو بالأحرى القوى ذات الغالبية فيه، شرع فوراً في نهج تدافع ومناكفة مع المجلس العسكري، رغم أن هذا المجلس التزم خطة متوافقا عليها لخطوات تسليم المقاليد إلى سلطة منتخبة. يمكن أن يتهم المجلس العسكري بأنه خطط للاستمرار في الحكم، وأنه سعى إلى ضمان دور المؤسسة العسكرية ودورها الذي مارسته منذ ثورة 1952، وأنه بذل المستطاع لحماية النظام السابق الذي بقي حاكماً وفاعلاً رغم سقوط رئيسه ومحاكمته والحكم عليه بالسجن المؤبد، أكثر من ذلك، يمكن أن يتهم بأنه مارس كل الألاعيب المتاحة لمنع وصول مرشح إسلامي، تحديداً من "الاخوان المسلمين"، إلى سدة الرئاسة، ولعله رتب "الانقلاب الناعم"، عبر المحكمة الدستورية، فحلّ البرلمان تحسباً لفوز رئيس "اخواني"، إذ يحرمه بذلك من برلمان تحت سيطرة الإسلاميين ويضطره إلى تنظيم انتخابات جديدة لابد أن تختلط فيها الأوراق لتأتي تركيبته الجديدة أقرب إلى الواقع، بل يمكن الذهاب إلى أن المجلس العسكري تعمد كل هذه البلبلة في الحياة السياسية ليبقى ما أمكنه من خيوط الحكم في يده حتى بعد انتخاب الرئيس. واقعياً، كان على مختلف القوى السياسية، ولا سيما الإسلاميين، أن تتعامل مع مكانة الجيش ووجوده عبر أجهزته في مختلف أروقة الدولة ومؤسساتها على أنه معطى موضوعي لا يمكن إزالته بـ"مليونية" في ميدان التحرير، لأنه صار راسخاً أصلاً في المجتمع، وبالتالي فإن تفكيكه وابعاده عن الحكم والسياسة لا يتم إلا بعمل ديمقراطي دؤوب، وعلى مدى زمني قد يطول وقد يقصر بحسب نجاح التجربة الديمقراطية في مجالاتها المتعددة، وفي النموذج التركي ما يمكن أن يفيد ببعض الصبر، وأهمها أن الجيش هناك خسر سيطرته تدريجياً، إلى أن فقدها الآن تماماً، لكن وصول "حزب العدالة والتنمية" إلى الحكم وعمله ونجاحه واتساع شعبيته وتأكيد مصداقيته تمت كلها في ظل الجيش واستقوائه. ولو سعى حزب رجب طيب أردوغان إلى تحدي الجيش وإزاحته وكسر هيبته، منذ لحظة وصوله إلى الحكم، لكان أخلّ بمعادلة ارتضاها الشعب والمجتمع. فالقاعدة في الجمهوريات أن الجيش يحمي النظام، ولا يستطيع أن يكون هو النظام، لكنه عند التحولات التاريخية الكبرى يضطر إلى الحفاظ على ما يعرفه في انتظار تبلور الجديد الذي لم يثبت أهليته بعد. كان الانتقال من شعار "الشعب والجيش يد واحدة" إلى "الشعب يريد إسقاط حكم العسكر" دليلاً على أن الشارع لم يعرف الحدود التي يجب أن يقف عندها، والخطأ هنا ليس خطأه، وإنما خطأ القوى السياسية التي لم ترد أن تعترف بحقائق البلد بل اندفعت إلى تحكيم طموحاتها وعواطفها في الصراع الطبيعي الذي نشأ غداة الثورة، فالإسلاميون سارعوا إلى اعتبار أن ستين عاما من تاريخ مصر محيت واندثرت ولم يعد لها أثر، و"الليبراليون" - كما يسمون اختصاراً للدلالة إلى قوى سياسية غير دينية – أرادوا إما مغازلة الإسلاميين في السعي إلى التغيير الاجتثاثي، وإما مغازلة العسكر ضد الإسلاميين تحصيلاً لمكاسب من دون عناء. لكن الخريطة السياسية التي ارتسمت في البرلمان شكلت مؤشراً واضحاً إلى أن الجيش لم يتملق أحداً ولم يتدخل، لكنه وضع "الاخوان" على المحك: إما أن يكتفوا بهذا الانتصار كبداية، وإما أن يطمعوا بالاستحواذ على كل المؤسسات، وهو ما لن يمر ببساطة. ربما كان العالم العربي يترقب تخلق النظام الجديد في مصر ليبني على ذلك توقعاته لعودتها إلى ممارسة دور إقليمي مفقود حاليا، الواقع أن تعقيدات الوضع الداخلي قد تؤخر هذه العودة، وبالتالي سيطول الانتظار. فأياً يكن الرئيس المنتخب سيجد نفسه في وضع لا يحسد عليه: صلاحيات غير واضحة، دستور مؤقت موضع اعتراضات، انتخابات تشريعية ينبغي إجراؤها، وضع اقتصادي هش.. والأهم أنه مطالب بمبادرات سريعة لوضع ركائز لمصالحة وطنية، وإلا فإنه سيواجه مجتمعاً سياسياً متضارب الأهواء وشارعاً غاضباً يرغب في إسقاطه، ستحتاج مصر إلى السنوات الأربع الآتية، مدة ولاية الرئيس، لاستعادة أنفاسها، واسترداد عافيتها قبل أن تصبح غير قادرة على ممارسة دورها المتصور. وأي نظام جديد لا يستند إلى بلد متصالح مع نفسه لن يتمتع بمصداقية كافية لطرح رؤية إقليمية، رغم أن مصر محكومة بأن تكون لاعباً إقليمياً سواء في محيطها العربي المرتبط بها تاريخيا أو بجوارها الإفريقي المرتبط معها بنهر النيل.