14 سبتمبر 2025

تسجيل

البعثة الأممية.. ما وراء الأقنعة

17 مايو 2020

من المفيد أن نؤسس لتحليلنا حول طلب السيد رئيس الوزراء د. عبدالله حمدوك لبعثة أممية، ببعض النقاط المفتاحية: أولاً: الفترة الانتقالية محدودة الأجل، وقد تزيد قليلاً، وفق ما رشح عن مفاوضات السلام، ووفق ذلك فإن رئاسة الفريق أول عبدالفتاح البرهان للمجلس السيادي تنتهي في يونيو ٢٠٢١م، وسيتولى بعده الرئاسة أحد أعضاء المكون المدني، وسيكون القائد الأعلى للقوات المسلحة بصفته الجديدة وقائدا لكل الأجهزة الأمنية. ثانياً: هذه فترة استحقاقات السلام، وسيترتب عليها إعادة هيكلة للمؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية، دون غطاء من المكون العسكري الذي سيحظى فقط بعضوية في المجلس السيادي ودون أغلبية، وهى فترة إجراء الانتخابات والمؤتمر الدستوري، وربما تم تأجيل النظر في أمر هذه القضايا بتعمد، انتظارا للقادم الجديد. ثالثاً: دون شك أن هناك مصالح وتقاطعات دولية وإقليمية، تدفع باتجاهات متعددة، ولدى هذه الأطراف رغبة في إحداث تغيير جذري في السودان وفي الإقليم والمنطقة ككل، وليس بالضرورة أن يكون ذلك معبرا عن إرادة سودانية خالصة أو مصلحة وطنية، ومما يذكر هنا، أن أحد الخبراء في الترويكا خلال محادثات سد النهضة، قال لأحد الخبراء الأفارقة: (إن أكثر ما يهمهم تحقيق مصالح مصر وضمان استقرار أثيوبيا، وإن السودان ليس نقطة تركيزهم)، وربما كشفت مجريات الواقع السياسي لاحقا بعضا من صحة هذا الرأي. رابعاً: إن مفهوم سيادة الدول لم يعد بذات رمزيته في القرن الماضي، والعالم اليوم تحكمه مصالح وأجندة داخلية، وربما من المصلحة دراسة ما هي المصالح المترتبة على أي قرار دولي؟ ونضيف لذلك أن نيكولاس هايسوم رئيس البعثة عرف بتدخلاته في الشأن الداخلي وتجربته في الصومال وأفغانستان محل جدل. خامسا: وكما قال الحزب الشيوعي في بيانه (إن رئيس الوزراء حمدوك أعطى الأمم المتحدة شيكاً على بياض)، إن أي قرار أممي لابد أن يكون مشروطا ببندين: - توافق وطني داخلي وتفويض شعبي. - حزمة سياسية ومهام واضحة ومحددة الأجل، وكل ذلك لم يحدث، إن الحديث عن السلام ومطلوباته قبل تحققه يبدو ضربا من (الظن)، وهذا لا تترتب عليه أحكام وقرارات، إلا إذا كانت هذه القرارات مطلوبة لذاتها.. وهذا محل تساؤل؟. وسادسا: إن الحملة على الأجهزة الأمنية مدروسة، وسيصدر تقرير فض الاعتصام لاحقا وستكون هناك ملاحقة قانونية، وفى الدوائر الأوروبية، هناك مخططات ضد بعض المؤسسات، وستتعالى أكثر ضد الدعم السريع وضد الأمن والمخابرات، لقد اقتادت قوات الأمم المتحدة رئيس ساحل العاج السابق لوران واغباغبو عام ٢٠١١م إلى المحكمة الجنائية، وبعد سنوات ثبت إن الاتهامات زائفة، وهو مشهد يمكن أن يتكرر والبعض يسوق له الآن. (2) ولتقريب الصورة أكثر علينا أن نراجع الوقائع ثم نقايس ذلك على المعايشة والواقع: أولاً: في ٥ سبتمبر ٢٠١٨م اعتذر د. حمدوك عن حقيبة المالية في حكومة رئيس الوزراء السيد معتز موسى، وفى ٧ نوفمبر ٢٠١٨م غادر حمدوك موقعه في المجلس الاقتصادي بالاتحاد الأفريقي وفي ٩ ديسمبر ٢٠١٨م ومع الحراك السياسي كان د. حمدوك هو المرشح لرئاسة الوزراء دون منازع، وزار خلال هذه الفترة المملكة المتحدة، وربما تجدر الإشارة هنا، إلى أن ثمة مؤشرات تؤكد أن هناك خلية عمل ومستشارين. ثانياً: هناك مجموعة من الخبراء وبمشاركة شخصيات مختارة من السودانيين، أعدوا في أغسطس ٢٠١٨م خريطة طريق انتقالية مفصلة، وقد استغرقت الدراسة وقتا طويلا، وامتد النقاش حولها من جامعة فرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية وأبوجا بنيجيريا ونيروبي بكينيا وجوهانسبرج بجنوب أفريقيا، وحظيت بتمويل ودعم الترويكا الأوروبية، ويبدو أن لهذه الرؤية الآن مساحة من النفاذ أكثر من أي بنود أخرى، وذلك في الوقت الذي غابت فيه رؤية وخطط قوى التغيير. وثالثا: وربما يدعم ذلك أكثر تغريدات السفير البريطاني في السودان عرفان صديق التي أوضح فيها أن طلب البعثة الأممية جاء باقتراح بريطاني وألماني. ورابعا: فإن ذلك يشير أكثر إلى أن القوى السياسية السودانية ونخص هنا (قوى الحرية والتغيير) لم تتم مشاورتها في الطلب، ويبدو أن مدافعة البعض عن القرار لحفظ وحدة المنظومة السياسية لا أكثر، فمن الصعب تصديق أن حزب البعث مثلا، وافق على هذه البعثة وهي ذاتها التي اقتادت صدام حسين، أو كيف أن حزب الأمة بكل تاريخه في مصادمة الاستعمار يعود اليوم لطلب السند من هذه المنظومة الأممية؟ أو الشيوعي الذي نشأ كجبهة معادية للاستعمار؟ خامسا: رغم تغريدات د. حمدوك الداعمة لحشد الطاقات الإنتاجية والموارد الذاتية، فإن جهوده تركزت على الدعم الخارجي وآخرها اجتماع باريس يوم الخميس ٧ مايو ٢٠٢٠م والذي كانت خلاصته ١٠٠ مليون دولار، كما أن عجز الموازنة والبالغ ٥٩٪ رهين في غالبه على المجتمع الدولي. وسادسا: بينما ينشغل المجتمع بقضاياه الحياتية فإن بعض توجهات وقرارات الحكومة تخاطب جهات أخرى، وأول تصريحات وزير الأوقاف عن اليهود، وخلال زيارة د. حمدوك إلى أمريكا اصطحب معه وزراء يخاطبون شرائح محددة، بل إن الترشيحات السابقة لتعيين وزير الدولة عمر قمر الدين كانت ترجح السعي لإقناع قطاعات محددة في أمريكا وغيرها وذلك لصلة قمرالدين ببعض مجموعات الضغط. كل هذه المؤشرات تدل على ثلاث حقائق: * إن هذه البعثة لم تكن بإرادة سودانية خالصة لإن نشؤها مبعث للقلق وأنها جهد من فعل كبير، وأن هناك ما يشبه الخلية ربما تدير الشأن السوداني وتشارك في صياغة التفاصيل. * إن هناك توجسا من المكون المدني تجاه المكون العسكري، على الأقل هذا ما تقوله الوقائع وليس الألسن، وإن هذا الطرف يسعى إلى تقوية صفه بسند خارجي، ولو أننا استعرضنا جلسة مجلس الأمن الأخيرة بخصوص هذا الأمر نجدها كلها تتجه للانتقال المدني، وأي قوة خارجية تأتي البلاد بهذه الروح ستكون نتائجها وخيمة. * هذه البعثة تعبر عن فشل النخبة السياسية السودانية في إدارة انتقالية، والتوافق على مصالح البلاد العليا، مما يقتضي الاستعانة بعون أجنبي. (3) إن النظر لهذه الخطوة لا يمكن دون قراءة أوسع، فهناك خطة كبرى تستهدف اختطاف الوطن بتاريخه وثرواته وإعادة تشكيل الإقليم والمنطقة. وعليه فإن النظر للقضايا من منظور وطني خالص أولى من الاستغراق في تفاصيل يومية. لقد انفرد الفريق أول عبدالفتاح البرهان بقرار لقاء نتنياهو التماسا لمصلحة وطنية وفق تفسيره، وانفرد د. حمدوك بطلب البعثة وبالتأكيد إن كل واحد منهما حصل على استشارة ما، دون أن يدار نقاش وطني، وهذا أمر معيب، خاصة إذا كان يستهدف الوطن كله، لأن البعثة الأممية ذات تفويض واسع، وسيعاد ترتيب المشهد السياسي والاقتصادي وشكل الحكم ومستوياته وفق منظور القادمين الجدد، فهذه قضية محورية. لقد شهد السودان محطات تاريخية مفصلية تجاوزت فيه قواه السياسية والاجتماعية الاحن والغبن، وهو أمر مطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى. إن الضجيج الراهن من قرارات إعفاء أو تكليف أو محاكمة أو انتزاع ممتلكات مجرد آلية لإثارة الغبار وتغبيش الوعي مما يجري فعليا، فهذه القرارات يمكن أن تلغى بجرة قلم، أو وفق قرارات قضائية أو مؤسسات تشريعية، إن ثمة قلوبا كظيظة بالغل والحقد تقود البلاد إلى مصير مجهول وينبغي أن نتوحد لتجنيب وطننا ذلك. إن إحداث أي تحول في البناء الدستوري أو تفتيت المؤسسات الأمنية وتمييع القيم الثقافية أو إحداث شرخ في البناء الاجتماعي والتماسك الوطني، أو التفريط في ثروات البلاد فإن هذا (فتق يستعصي رتقه). إن المطلوب الآن هبة وطنية شاملة، من قطاعات مجتمعية، وأساتذة جامعات وخبراء واستنفار لأصدقاء السودان كوطن بعيدا عن المواقف السياسية، لأن هذه (الطامة) ستؤدي بالسودان للتشظي والتآكل.