15 سبتمبر 2025

تسجيل

العرب وأمريكا.. من (إدارة) العلاقات إلى علاقات (الإرادة)

17 مايو 2015

منذ ستة أعوام، في مثل هذا الشهر تحديداً، وقبل زيارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما الأولى إلى الرياض بعد انتخابه رئيساً في ولايته الأولى، نشرتُ في هذه الصحيفة مقالاً بعنوان (أمريكا والدور المحوري للخليج)، حملَ المقال انتقاداً للمقولة الشائعة عن قدرة مراكز الدراسات والأبحاث ودوائر صناعة القرار في أمريكا على فهم الواقع العربي بشكلٍ دقيق. وتحدثت، تحديداً، عن الصورة النمطية في الأوساط السياسية الأمريكية عن دول مجلس التعاون الخليجي، وهي صورةٌ "كانت مبنيةً على رؤية المنطقة من منظور كونها خزاناً استراتيجياً للنفط أولاً وقبل كل شيء آخر. وبالتالي، فإن علاقة أمريكا مع تلك الدول كانت محصورةً في صياغة سياساتِ تعاون تُرّكزُ على أمن المنطقة، واستمرار قدرتها على ضخ النفط في شرايين الاقتصاد العالمي. لهذا، لم تأخذ تلك السياسات بعين الاعتبار لعقودٍ طويلة التأثيرَ الممكن لدول الخليج في السياسات الإقليمية وحتى العالمية، إلا من خلال ذلك الجانب الوحيد، أي المسألة النّفطية. تغيّرت هذه النظرة إلى حدٍ ما بعد أحداث سبتمبر المعروفة، لكن المدخل كان أيضاً جزئياً حين تمّ اختزالهُ في موضوع التعاون على مكافحة الإرهاب".وفي مطلع شهر مارس من العام الماضي 2014، نشرتُ مقالاً، أيضاً في هذه الصفحة، بعنوان (في الحاجة لردٍ استراتيجي عربي على الاتفاق الاستراتيجي بين أمريكا وإيران)، بدأ بالعبارة التالية: "لا يُمكن التعامل مع الصفقات الإستراتيجية الكبرى إلا من خلال صفقات شاملة مقابلة تحمل أيضاً الصفة الاستراتيجية. ولايُمكن استيعاب الاختراقات غير المألوفة، والكامنة في الاتفاقات الإستراتيجية التي تستهدف مصالح العرب، وربما وجودهم، إلا باستحداث اختراقات غير مألوفةٍ أيضاً في الصف العربي الداخلي على كثيرٍ من المستويات". وبعد الحديث عن "صفقة إستراتيجية كبرى تمت أو في طريقها للاكتمال بين النظام الإيراني والإدارة الأمريكية" قبل الإعلان الذي تم عنها بعد ذلك بأكثر من عام. جاءت خاتمةُ المقال كما يلي: "كيف يقرأ أصحاب العلاقة هذا المشهد الاستراتيجي الحساس وكيف يتعاملون معه؟ من الواضح أن القراءة الراهنة، وما ينتج عنها من سياسات، لا تكفي إطلاقاً لاستجابة فعالة للقادم الخطير. لا مفر إذاً من مراجعة خلاقة وجذرية تحرص على توظيف كل الأوراق الممكنة في مواجهة هذا التحدي الخطير، ولو اقتضى الأمر اختراقات قد تكون غير مألوفة في عالمنا العربي، لكنها اختراقاتٌ لا يُستغنى عنها في السياسة الدولية، وهاهي إيران وأمريكا تُقدم لنا نموذجاً عنها هذه الأيام".بغض النظر، مبدئياً، عن نتائج القمة الخليجية الأمريكية، على أهميتها، لا يمكن اعتبارُها، على المستوى الاستراتيجي، إلا بدايةً جديدة لنمطٍ مُختلف من العلاقات.ليس من طبيعة دولةٍ كأمريكا أن تُغير سياستها بشكلٍ سريع، خاصةً حين يتعلق الأمر بمنطقةٍ حساسة كما هو الحال بالنسبة للخليج العربي تحديداً، وللعالم العربي بشكلٍ عام. سيما وأن عملية رسم وتنفيذ التوجهات السابقة للسياسة الأمريكية استمرت لأعوام، هذا فضلاً عن درجةٍ من (الكبرياء) الشخصي لأوباما نفسه، وللحكومة الأمريكية بشكلٍ عام.. عاملان لا يسمحان بأن تَظهر أمريكا ورئيسها بمظهر مَن غيّرَ توجهاته جذرياً بسبب تطورات الشهور الأخيرة.في مطلع العام الماضي، أجرى جيفري غولدبيرغ، الصحفي في مجلة The Atlantic الأمريكية، لقاءً مطولاً مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما لم يأخذ حظه المطلوب من الدراسة والتحليل لجهة استقراء ومعرفة المحددات الإستراتيجية للموقف الأمريكي من إيران تحديداً، ولسياستها في المنطقة بأسرها تبعاً لذلك.كان مُحتوى تلك المقابلة مؤشراً على ما وصلنا إليه بعد عامٍ منها، لكن ثمة سؤالاً له دلالات تتعلق بوضعنا الراهن يجب الانتباه إليه، وذلك حين سأل الصحفي الرئيس الأمريكي عن رأيه فيما إذا كان يرى خطورةً أكبر في التطرف السني أو التطرف الشيعي.هنا طرح أوباما وجهة نظر لا يمكن الهروب أبداً من دلالاتها الإستراتيجية الخطيرة على مستوى الرؤية السياسية وعلى مستوى القرارات العملية التي يمكن أن تُبنى عليها. ذلك أن الرجل تهرب من الإجابة المباشرة على السؤال، لكنه أجاب عليه بطريقة معبرةٍ جداً أثارت حتى انتباه الصحفي في تعليقه الذي كتبه عن المقابلة. إذ قال أوباما:"ما سأقوله هو أنك إذا نظرت إلى السلوكيات الإيرانية فستجد أنها إستراتيجية، ولا تأتي على شكل ردود الأفعال. إن لديها رؤية متكاملة للعالم، وهم يدركون مصالحهم، ويستجيبون لمعادلة الأرباح والخسائر.. إنها دولة كبيرة وقوية ترى نفسها كلاعب مهم على المسرح العالمي، ولا أعتقد أن لديهم أمنيات انتحارية".أن تكون لديك رؤيةٌ واضحةٌ للعالم، وأن تُدرك مصالحك، وتستجيب لمعادلة الأرباح والخسائر، وترى وزنك وحجم تأثيرك، وترى نفسك كلاعب مهم على المسرح العالمي، وألا يكون لديك أمنياتٌ انتحارية. هذه كلماتٌ مفتاحية في تقويم الإدارة الأمريكية الراهنة للدول. وهو ما يبدو أنها لَمحَتهُ في سياسات الخليج بقيادة السعودية في تطورات الشهور الأخيرة. لكن عملية (هضمه) تحتاجُ لوقتٍ ومثابرة.أدركت الإدارة الأمريكية دلالات هذه التطورات، خاصةً منذ بدء (عاصفة الحزم)، وأدركت، أكثرَ من ذلك أن العاصفة المذكورة لا تتعلق باليمن فقط، بل بالمنطقة بأسرها. وأنها عاصفةٌ تهدف لإحداث نقلةٍ في العلاقة معها من كونها مجرد (إدارة) قائمة على الرؤية الأمريكية النمطية، لتصبح علاقة نديةً قائمةً على وجود (الإرادة): المرادف الأقرب لـ(حزمٍ) أحدث اختراقات في السياسات العربية غير مسبوقة، ولم تكن أمريكا، بحكومتها ومراكز دراساتها وأبحاثها، تتوقعُ حصولها في قريبٍ أو بعيد.لهذا، نسمع اليوم في العاصمة واشنطن همساً يتصاعد من زاويةٍ لأخرى عن ضرورة إعادة رسم الأجندات البحثية لدراسة المتغيرات الجديدة، وعن واقع (المفاجأة) الذي تعيشه كل المؤسسات ذات العلاقة، حكوميةً كانت أو خاصة. هكذا هي أمريكا.. وهذه هي (واقعيتُها).. يفرض (الواقع) نفسه عليها، فتركض لاستيعابه ومحاولة فهمه، حصلَ هذا، بكل صراحة، مع إيران حين بدأت، بممارساتها، تفرضُ واقعاً مُعيناً في المنطقة، وهاهو يُكرر نفسه مع ملامح وبدايات (الحزم) الخليجي الذي يُفترض أن يمثل العرب بأسرهم ليكون أكثر فعاليةً وتأثيراً.ومن واقع ذلك الإدراك، يأتي استمرار الحزم المذكور، بكل جوانبه، خاصة في سوريا الآن، ليكون العامل الرئيسي في إقناع الأمريكان بضرورة بناء علاقةٍ إستراتيجية جديدة مع المنطقة، لن تَضمَنها التصريحات ولا حتى المكتوب على الورق، بقدر ما تضمنها الممارساتُ والأفعال.