10 سبتمبر 2025
تسجيلgoogletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); يبدو المشهد الإعلامي التونسي، في حالة إرباك غير مسبوق، ليس احتجاب سبعة صحف عن الصدور في إحدى الأيام القليلة الماضية، سوى تمظهر من تمظهرات أزمة خانقة يمر بها هذا المشهد منذ عقود، وازداد استفحالا بعد ثورة 14 يناير 2011. ولعل الصحافة الورقية، هي الركن الأشدّ حرجا في النسيج الإعلامي الراهن بمختلف تعبيراته، المرئية والمسموعة والمكتوبة. إشكاليات قديمة جديدة كانت مشكلات الساحة الإعلامية في العهد القديم، تتلخص في الإشهار المشروط بالولاء للسلطة، وتمويلات منعدمة إلا من مبيعات، بالكاد تغطي نفقات الرواتب والطبع واللوجستيك الفني، وحريات مقموعة، جعلت الصحف نسخا مطابقة لبعضها البعض، حتى أنه بإمكان المرء مطالعة صحيفة، تغنيه عن قراءة أو حتى تصفح بقية العناوين، كما كان يتندّر بذلك الصحفيون والمراقبون. عرفت الساحة الإعلامية التونسية بعد الثورة، بروز نحو 300 عنوان صحفي جديد، بين يوميات وأسبوعيات، فيما يشبه الانفجار الكبير الذي كانت تحتاجه النخبة والإعلاميون والرأي العام، في ظل ثورة عارمة بدت مصدر إلهام لشعوب المنطقة وطبقتها السياسية المتنوعة. غير أن هذه المؤسسات الإعلامية الجديدة، سرعان ما تحولت إلى أحد مكونات الأزمة، خصوصا بعد أن أغلقت عشرات المؤسسات أبوابها، واضطرت صحف عديدة للاحتجاب القسري، وتراجعت مبيعات العديد من الصحف العريقة تاريخيا، على غرار جريدة "الصباح"، اليومية الأولى المستقلة في تونس، و"لابريس"، اليومية الناطقة باللغة الفرنسية (حكومية)، و"الشروق" اليومية الأكثر انتشارا في البلاد، فيما انسحبت مؤسسات أخرى بسبب وصولها إلى مرحلة الإفلاس، وفي القلب غصّة، بعد أن ضاع حلم، وذهبت استثمارات أدراج الرياح. أسباب حقيقية والحقيقة، أن أسباب هذه الأزمة قديمة وموروثة من خمسة عقود من البغي السياسي والإعلامي، فليست مسائل الإشهار والدعم والتوزيع وتراجع المبيعات وغيرها جديدة على المؤسسات والنقابات، فكل التقارير الصادرة خلال العشرية التي سبقت الثورة، كانت تشير إلى هذه الإشكاليات بالبنان.. وكان الجميع يربط حلّها بتوفر الحرية والديمقراطية. لكن المفارقة العجيبة، أنه عندما توفرت الحريات بعد الثورة، واتخذ التداول السلمي على السلطة طريقه كأحد تعبيرات السياق الديمقراطي الجديد، لم تستفد المؤسسات الإعلامية من هذا المناخ الوليد، بل راكمت مشكلات جديدة إضافية.فما الذي حصل تحديدا؟ ثمة عدة مؤشرات قد تساعدنا على فهم ما يجري في ربوع الإعلام التونسي: ** تدفق المال السياسي والإعلامي بكيفية ضخمة، ما جعل إنشاء مؤسسة إعلامية، أيسر من كتابة مقال. ** الأخطاء الكثيرة التي ارتكبتها "الترويكا" السابقة في الحكم، في علاقة بالإعلام، فهما وتقديرا وتصوّرا، وعلى المستوى العلائقي والمؤسساتي والقانوني أيضا.. فلم يكن لديها تصور لمشهد إعلامي جديد.. هكذا ضاعت فرصة حقيقية وسط تخبط الحكومة وترددها، وارتجاف أفكارها قبل أيديها.. ** استفحال فيروس "الأدلجة" و"التسيّس المتحزّب" صلب الإعلام بما كرّس اصطفافات حزبية، أثرت على ثقة المتلقين، وهزّت صورة الإعلاميين والمؤسسات والمنابر الصحافية. ** التحالف الموضوعي لقوى المال وبارونات الإعلام القديم والدولة العميقة، رهن الإعلام لأجندات وحسابات استثمرت في انتهاك مصداقيته، وتآكل ثقة الرأي العام فيه. ** تمحورت نضالات النقابات ومنظمات المجتمع المدني، حول مطلب حرية التعبير، وتركت الإعلام يتخبط في مشكلاته وأزماته، ولم يفلح شعار الحرية وحده، في إيقاف "الماكينة" التي كانت تطحن المؤسسات من داخلها، ونعني هنا الجوانب الهيكلية والمالية والمهنية للبيوت الإعلامية التي لا تزال أوهن من بيت العنكبوت. ** وحتى عندما أغلقت مؤسسات إعلامية بسبب عدم قدرتها على مجابهة وضع مالي صعب ومعقّد، لم يطرح السؤال حول الأسباب، ولم تبحث النقابات أو المجتمع المدني، كيفية معالجة الوضع، كان كل طرف "يداعب لحيته" كما يقال، ولم يدركوا بأن شظايا الأزمة ستطال الجميع. ** إن القوانين المنظمة للحياة الإعلامية لم تتغيّر، والنصوص (المراسيم) الجديدة التي أعقبت الثورة، كانت باهتة ولا تعبّر عن مقتضيات المرحلة وسياقاتها، لأن من كتبها، كانوا من "سدنة المعبد" وحرّاسه، وبالتالي لا يمكن أن يصوغوا بديلا أو رؤية جديدة. إن الإعلام في تونس، يحتاج إلى قوانين جديدة، ومناخات عمل مهنية واضحة، وهياكل نقابية قوية بتضامن المنتسبين إليها من دون أي إقصاء، والأدوات الأساسية لهذه المعركة، هي المصداقية والثقة والاستقلالية، فلا ينبغي التشويش على البوصلة، وإلا فإن خراب البصرة سيزداد خرابا.