17 سبتمبر 2025
تسجيليحتفل العالم في الثالث من مايو من كل سنة، باليوم العالمي لحرية الصحافة، وعادة ما يكون هذا اليوم فرصة للتقييم والوقوف على أهم الإنجازات، وأهم المشاكل والعراقيل والتصفيات الجسدية وغيرها، التي يتعرض لها الصحفيون في مختلف دول العالم. تقييم الأداء هنا يستوقفنا عن أوضاع الصحفيين العرب وظروف عملهم، وحجم الحرية الذي يتوفر لهم لأداء مهامهم، وهل من تطور وتحسن؟ وهل تغيرت دار لقمان أم بقيت على حالها، أم أنها زادت سوءاً وتدهوراً؟ وهل من تأثير إيجابي للربيع العربي في الحرية ؟ هل تعلمت الأنظمة العربية الدرس وأدركت أن الإعلام الحر والنزيه والمستقل والملتزم هو بارومتر الديمقراطية وهو السبيل للرأي العام القوي والفعال والمستنير، وهو منبر المجتمع المدني الفعال والحريص على المصلحة العامة والمساهمة في الحياة المشاركة السياسية.الصحفي هو مرآة المجتمع، وهو شاهد عيان يومي على ما يجري وما يحدث في المجتمع، في العلن أو في الخفاء وخلف الكواليس.. الصحفي أو القائم بالاتصال، مطالب بالتأريخ اليومي لمجريات الأحداث، وبالوقوف عند كل كبيرة وصغيرة، وكشف الحقائق وإبراز الإيجابيات والسلبيات، وخاصة التركيز على السلبيات، لأن السلبيات هي التي تضر بالمجتمع.. الصحفي هو حلقة الوصل بين الحاكم والمحكوم، بين المشرّع والمنفذ، بين السلطة والشعب، وهذا ما يجعل دوره إستراتيجياً وحساساً في أي مجتمع. دراسات وتقارير منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم، و"مراسلون بلا حدود"، والاتحاد العالمي للصحف، والمنظمة العالمية للصحفيين، وغيرها من المنظمات الحكومية وغير الحكومية، تبعث على التشاؤم والحزن العميقين، للمشاكل والمتاعب والخطورة التي تكتنف مهنة الصحافة.. ففي كل سنة هناك عشرات، بل مئات الصحفيين يموتون قتلاً ويغتالون، ومئات منهم يسجنون، ومئات يحاكمون ومئات يتعرض للمضايقات والإهانات، لا لشيء، إلا لأنهم حاولوا القيام بواجبهم وبرسالتهم على أحسن وجه، وأن يكشفوا الحقيقة ويحاربوا الفساد، وغيره من الآفات والأمراض التي تدفع ضريبتها وفاتورتها الغالبية العظمى ممن لا حول ولا قوة لهم.والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، وخاصة بالنسبة للوطن العربي، وأمام كل هذه المهام والمسؤوليات: هل يتمتع الصحفي في الدول العربية بالحصانة الكافية؟ هل يتمتع بحماية قانونية وبتشريعات تحميه من جبروت السلطة والمال؟ هل ظروف عمل الصحفي في الدول العربية مهيأة ومواتية للقيام به على أحسن وجه؟ ماذا بالنسبة للرضا عن العمل والعلاقة بمصادر الأخبار؟ ماذا عن الرواتب والحوافز والامتيازات؟ هل في نهاية الأمر نطلب من الصحفي الكثير ونقدم له القليل؟ تقارير المنظمات الحكومية وغير الحكومية العالمية تشير إلى تدهور وضع حرية الصحافة في الدول العربية وأن ترتيب معظم هذه الدول عالميا يأتي في الجزء الأخير من الجدول متراوحا ما بين الرتبة 91 و177 من أصل 180 دولة.. وحتى الربيع العربي الذي وعد بالكثير لم يأت بالجديد وإنما أدخل العديد من الدول العربية في فوضى إعلامية لم يسبق لها مثيل. تعتبر حرية الصحافة والديمقراطية وجهين لعملة واحدة، إذ لا نستطيع أن نتكلم عن نظام ديمقراطي دون منظومة إعلامية قوية وفاعلة ومشاركة في الحياة السياسية وعملية اتخاذ القرار.. وأهم العراقيل التي تقف حاجزاً أمام حرية الصحافة في معظم الدول العربية والدول النامية عموماً، هي القوانين الجائرة والصارمة التي تحد من إبداع الصحفي وعطائه.. إضافة إلى أن معظم قوانين المنشورات والمطبوعات والتشريعات الصحفية، تفرض على القائم بالاتصال ممارسة النقد الذاتي أو الرقابة الذاتية، وهكذا، تصبح الآلة الإعلامية عالة على المجتمع.. فبدلاً من أن تكون عنصراً فعالاً في محاربة الآفات الاجتماعية، وفي تقديم الحلول للمشاكل المختلفة، تصبح في يد القلة الحاكمة التي قد تكون في الكثير من الأحيان خاطئة في قراراتها وطرق تسييرها. جدلية حرية الصحافة والديمقراطية، تكمن أساساً في أن الأخيرة تقوم على الاتصال السياسي وحرية التعبير والفكر.. وبطبيعة الحال، هذه الأمور لا تتحقق إلا بوجود إعلام يراقب وينتقد ويكشف ويحقق.. فالأطراف الفاعلة في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، بحاجة إلى وسائط إعلامية ومنابر للتحاور والاختلاف في الرأي، والتعبير عن وجهات النظر المختلفة... إلخ. إن أي تراجع في حرية الصحافة يعني تراجعاً في الديمقراطية، وتاريخ حرية الصحافة في العالم يؤكد فكرة التأثير المتبادل بين الديمقراطية والصحافة، فالأنظمة السياسية الديكتاتورية أو السلطوية، لا يمكنها أن تحلم بصحافة حرة وقوية، لأنها لا تؤمن بالتعددية الحزبية وحرية الرأي والتعبير.. فصحافة هذه الأنظمة تكون دائماً أحادية الاتجاه، تخدم من يشرف عليها ويمولها ويسيطر عليها..السلطة في الوطن العربي، مع الأسف الشديد، ما زالت تنظر إلى المنظومة الإعلامية والمؤسسة الإعلامية، على أنها أداة لتثبيت شرعيتها، وبسط نفوذها، وتمرير خطابها السياسي، بعيداً عن طموحات الجماهير ومطالبهم، وما زالت بعد لم تستطع بناء المؤسسات اللازمة لضمان المشاركة السياسية الفاعلة، وضمان رأي عام قوي وفعال، ونتيجة لكل هذا، فشلت كذلك في بناء نظام إعلامي إيجابي وفعال، وليس سلبياً يستقبل ويؤمر، نظام إعلامي يؤمن بالاتصال الأفقي، ويعمل على إشراك مختلف الشرائح الاجتماعية في العملية السياسية وفي اتخاذ القرار. قد يسأل سائل، هل فعلاً وظفت الدول العربية جهازها الإعلامي أحسن توظيف؟ وهل استفادت حقيقة من الوسائل الإستراتيجية والهامة التي تنفق عليها سنوياً مئات الملايين، بل المليارات، من الدولارات؟ وبكل بساطة، نقول إن نظرة الدول العربية لإعلامها نظرة خاطئة وسلبية، تقوم على البعد البراجماتي النفعي، دون مراعاة إمكانية استغلال الجهاز الإعلامي بطريقة أرشد وأحسن، يستفيد منها المجتمع ككل، السلطة والشعب بشرائحه المختلفة.. والنظرة الضيقة هذه للإعلام من قبل الأنظمة العربية، هي نتيجة حتمية لانعدام مستلزمات وشروط الإعلام التنموي، الذي يراقب وينتقد ويشارك في صناعة القرار، ويشرك الجماهير في العملية التنموية وفي البناء والتشييد.. فالنظام الإعلامي العربي الراهن، يحتاج إلى نظرة نقدية جادة مع نفسه ومراجعة للذات، للوقوف على السلبيات والتعلم من الأخطاء والهفوات السابقة، والانطلاق بخطى قوية وإيجابية نحو مستقبل لا يكون فيه الإعلام وسيلة للسيطرة والتحكم والتملق، وإنما وسيلة للحرية والعلم والمعرفة والتفكير والإبداع، من أجل المصلحة العامة والتنمية المستدامة والحكم الراشد. إن تحديات القرن الحادي والعشرين وعصر الرقميات والشبكات الاجتماعية والإعلام الجديد كلها تحتم على الأنظمة العربية مراجعة أجندتها وسياساتها فيما يخص المنظومة الإعلامية من حيث التعامل والعلاقة والتشريعات والحرية، فبدون إعلام حر يبقى الكلام عن الديمقراطية والمشاركة السياسية والحكم الراشد كلاما بدون معنى.