02 أكتوبر 2025

تسجيل

لماذا انحدر الاقتصاد الياباني؟

17 أبريل 2013

خرجت اليابان من الحرب العالمية الثانية ضعيفة اقتصاديا، بل شبه مدمرة، نتيجة الإصابتين النوويتين في قلب مدنها واقتصادها. استطاعت بفضل جهود القطاعين العام والخاص، كما بفضل مساعدة الغرب، أن تنشط إنتاجها وترفع إنتاجيتها حتى أصبحت مضرب مثل لكل الدول الراغبة في التطور والتقدم. نما الناتج المحلي الإجمالي الياباني بنسبة سنوية قدرها 4.3% بين سنتي 1970 و1980، أي أعلى من المعدل الدولي الذي بلغ 3.5% وأقل من الصين التي نمت بمعدل 5.2%. تابعت اليابان نموها في العقد التالي، حيث بلغ 4.2% حتى عام 1991 مقارنة بـ 3% كمعدل دولي. تطور اليابان أقلق الولايات المتحدة وأوروبا، إذ إن مراجعة المقالات والكتب التي صدرت في تلك الفترة تشير إلى شعورهما بجدية المنافسة اليابانية. أصبحت تجربة اليابان الناجحة دروسا في جميع كليات الاقتصاد وإدارة الأعمال. كانت لهذا النجاح الذي عزز الطلب ورفع ثقة المستهلك نتائج خطيرة، منها فورة عقارية ومالية لم يشهدها العالم من قبل. ارتفعت الأسعار، كما الأصول، بنسب عالية وسريعة، وأصبحت قيمة أصول مجموعة "ميتسوشيتا" (التي تنتج باناسونيك) أعلى من شركة "يونيفرسال ستوديو" العملاقة. أصبحت قيمة أصول مجموعة "سوني" أكبر من شركة "كولومبيا للأفلام". كما ارتفعت قيمة شركة "ميتسوبيشي" العقارية، ففاقت قيمة مركز "روكفيللير" في نيويورك. رفع التضخم القيمة السوقية للشركات فأصبحت أرقاما نظرية واصطناعية تشير إلى فقاعة خطيرة آتية، لا بد وأن تنفجر تماما كما حصل في سنة 2009 وإن كانت الأسباب والظروف مختلفتين. من الأسباب الأخرى للسقوط الياباني اعتماد الحكومات المتعاقبة لسياسات التحرير المالي السريع من دون رقابة جدية وفاعلة، مما سبب ارتفاع الين تجاه الدولار الأمريكي. أثرت السياسة النقدية الداعمة للاقتراض المصرفي والمخفضة للفوائد على التضخم في غياب سياسات اجتماعية تغطي الفقراء. سببت القوانين التي تسمح للشركات بامتلاك المصارف Keiretsu والعكس بالعكس في تحقيق "تضارب المصالح" المضر الذي يقضي عمليا على الشفافية والمحاسبة. أما النظام الضرائبي، فكان غير عادل، بل ميز بين قطاعات وأخرى دون أسباب علمية ومنطقية، بل تبعا لمصالح سياسية ومالية مرتبطة بالسياسة. أخيرا وليس آخرا، لم ينجح اليابانيون في إيصال الشخص المناسب إلى المكان السياسي المناسب، فانتشر الفساد المنتقل من حكومة إلى أخرى رغم التبديل الدوري للأشخاص والأحزاب. بدأ السقوط في التسعينيات واستمر في العقد الذي تلاه، وما زالت اليابان تعاني من الانكماش المستمر منذ التسونامي في 11\3\2011 والحادثة النووية في "فوكوشيما". تشير إلى السقوط مؤشرات الأسهم، حيث انحدر الـ Nikkei من 38915 في 31\12\1989 إلى 15000 في صيف 1992. انخفضت أسعار العقارات بنسبة %50 في فترة 1991 - 1996. تعاني اليابان من الركود القوي ومن ديون غير قابلة للتحصيل، بل من سقوط مصارف ومؤسسات مالية. كما أن الحكومات المتعاقبة لم تحسن تطبيق السياسات الصحيحة التي تخفف من الخسائر وربما تساهم في الإنقاذ. تتهم الحكومات بأنها لم تع المشكلة إلا متأخرة، ولم تنسق السياسات بين المؤسسات الرسمية، مما جعل تأثيرها سلبيا على الأوضاع. يتبين أيضا أن هيكلية الشركات اليابانية التي كانت مضرب مثل في الإنتاجية والنوعية لم تكن كذلك فعلا، بل كانت أوهاما أكثر بكثير من حقيقة. من المؤشرات المؤلمة لما يحصل هو ارتفاع عدد المنتحرين الذكور من 26 لكل مئة ألف في سنة 1985 إلى 35.2 في سنة 2000 بسبب القلق وتردي الأوضاع الاقتصادية واليأس في بعض الأحيان. هل كان النجاح الياباني حتى 1991 مبنيا على الأوهام؟ وما هي المشاكل التي بني عليها والتي لم تظهر إلا لاحقا، أو بالأحرى التي لم يحللها العالم إلا متأخرا؟ أولا: تميزت إدارات الشركات اليابانية بتجنب المخاطر المبني على التباطؤ في اتخاذ القرارات الصحيحة والسريعة في عالم متغير. تميزت باهتمامها بالحصة في السوق أكثر من تركيزها على الأرباح. لم تقم بالتجديد والإبداع الكافيين كما لم تستمع إلى آراء المستهلكين في الداخل والخارج كما تفعل مثلا الشركات الألمانية. أسهمت هذه السياسات مع الوقت في إنتاج سلع دون المستوى، فاستردت مثلا ملايين السيارات وغيرها من السلع. لم تعد الصناعات المختلفة بالنوعية المرتفعة التي كان يشهد لها العالم. ثانيا: نتيجة سوء الممارسة من قبل القطاعين العام والخاص، خمس الصناعات اليابانية تحصل في الخارج، بينها %30 من مجموع الإلكترونيات ونصف السيارات. انعكس هذا الانحدار الصناعي على نسب البطالة التي ارتفعت إلى 5% وهي غير مسبوقة في اقتصاد تعتبر فيه الوظيفة مدى الحياة من أهم ميزاته. ثالثا: أثرت كارثة "فوكوشيما" ليس فقط على واقع الاقتصاد، إنما على مستقبله، خصوصا مصادر الطاقة فيه. رابعا: تعاني اليابان أيضا من انخفاض عدد سكانها وبالتالي من انخفاض الاستهلاك مع الوقت رغم القوة الشرائية المرتفعة. خامسا: الاستثمارات المباشرة الخارجية في اليابان ضعيفة أو 3% من الناتج، مقارنة بـ 13% في الولايات المتحدة و35% في فرنسا. تعتبر النسب الضرائبية على الأعمال مرتفعة في اليابان مقارنة بالدول المجاورة وحتى الغربية. أما سوق العمل فتعتبر جامدة ومقفلة، بالإضافة إلى أن اليابان لم توقع على اتفاقيات تجارة حرة كغيرها، لثقتها المبالغة في جودة سلعها وخدماتها وعلاقاتها الدولية. لا تعتمد الشركات اليابانية سياسات تسويق فاعلة وناشطة كما تفعل الغربية والمنافسة عموما. نتج عن تسونامي 2011 حوالي 27 ألف قتيل أو مفقود و350 ألف مهجر، فسبب تغيرا أساسيا في المؤشرات التجارية وتكلفة إعمار مقدرة بـ 235 مليار دولار. لأول مرة منذ 30 سنة وفي 2011، يكون الميزان التجاري عاجزا بسبب انخفاض الصادرات بنسبة 2.7% وارتفاع الواردات بنسبة 12%. سببت الأحداث انخفاضا في الناتج بنسبة 0.7% بسبب الأضرار التي لحقت بالمصانع والشركات. تحولت اليابان من نموذج للنجاح والتفوق إلى مضرب مثل للانحدار والسقوط. هل هنالك دروس للعالم؟ أولا: أمجاد الماضي لا تنفع، بل يجب التجدد دائما، خاصة في عالم متغير بسرعة فائقة. المرونة كما حسن التوجيه والقيادة مطلوبتان من قبل القطاعين العام والخاص. ثانيا: بعض المشاكل الاقتصادية يمكن أن تكون هيكلية وليست عابرة أو شكلية، وبالتالي تكون معالجتها صعبة وتتطلب دعما سياسيا وشعبيا ومؤسساتيا. تحتاج اليابان إلى تخفيف القيود المفروضة على الأسواق والشركات كي يتعزز الاستثمار الأجنبي. ما زالت اليابان تقاوم الانفتاح على الخارج، علما بأن التغيير ليس سهلا بسبب العادات والتقاليد والعقلية المحافظة، بل المنغلقة. "الحاجة أم الاختراع"، وبالتالي سيتحقق التغيير عاجلا أم آجلا.