16 سبتمبر 2025
تسجيلعانقتك ياصاحبي التونسي السيد فتحي بلطف وأنا أهنئك والتونسيين طرا وجميع من في العالم من الأحرار مباركاً بالفرحة الكبيرة التي بسطت بهجتها على القلوب والوجوه إذ رحل ظلام الطغيان هارباً من ضياء الفجر الذي هزمه بعد ثلاثة وعشرين عاماً وحصحص الحق وزهق الباطل، فلماذا جذبتني يا صاحبي وضممتني بكل قوة والدمع ينهمل من عينيك بل قلبك وروحك ووجدانك وضميرك وإذا بي أبكي معك وكلانا يستشعر حال كل مظلوم وحزين كان طيلة هذه المدة مسجوناً في قفص الاستبداد، محرما عليه أي هواء للحرية كالبلبل الضعيف الممنوع من التحليق في أجواء الحياة وحدائق النور، وإن أنس لا أنسى تلك اللقطة التي بثتها قناة الحوار التليفزيونية في لندن حيث وقفنا أمامها نستدر الدمع ثانية فهي مشهد حقيقي لرجل نزل من بيته ليلا إلى ساحة الشارع بعد معرفته بهروب الطاغية والناس نيام فأخذ ينادي ويكلم نفسه ويتحرك حولها بكل نشاط ثم يهتف بقوة عسى أهل العمائر كلهم يسمعونه: المجد لتونس، تونس حرة، تحيا الحرية، تحيا تونس، المجد للشهداء، الشعب هو الذي يحكم يا شعبنا الذي ضحيت بأولادك، دماؤهم لم تذهب خسارة، أزاحت ابن علي، هرب المجرم فر السارق، السفاح هرب، يا شعبنا العظيم، يا شعبنا العظيم قدمت ثورة الياسمين.. لقد أخذ هذا الرجل الذي لم يستطع النوم يكرر هذه العبائر والشعارات وهو على يقين أنها في قلب وعلى فم كل تونسي حر وكل إنسان متطلع إلى نور الحرية من عظم وفداحة المأساة التي كانت ملهاة لدى الطغاة والظالمين. كم كان بوح هذا الرجل معبراً ومؤثراً حتى إن مذيع القناة وهو يقابل الأستاذ المجاهد راشد الغنوشي رئيس حزب النهضة التونسي أخذ يغرق في الدموع فيبادله ضيف القناة بالبكاء الذي يسح على خده فيمسح ويمسح هذه اللآلئ لتعود أكثر وضاءة وبريقاً ثم يجيب المذيع: نعم إن الطاغية المهزوم كان رجلا بلا قلب كان سفاحا مجرما، ولعل القارئ يذهب إلى أن مئات من المشاهد في انتفاضة الاحتجاج السلمية كانت أشد أثرا، فالدماء تسيل والجراح تتحدث والشهداء يرسمون الطريق بتضحياتهم من أجل الحرية وأنا أجيبك يا أخي إن كل هذه المثيرات ما هي إلا الشعل المتصلة ببعضها كالسلسلة القوية التي لا تعرف الانفكاك، ولكن هذا المشهد أيضا قد هيج خاطري وأشعل ناره فوق اتقادها، إن هذا الرجل يعلن في شعاراته أن الحرية أثمن ما في الوجود ولذلك كان ثمنها باهظاً كما يقول المفكرون، فبالأمس لا يمكن لهذا البلبل أن يصدح ويصرخ، إن ثورة الشعب هي التي تمكن للحرية وتقول لا أحد يحب القيود حتى لو كانت من ذهب، إنه يشعر وهو في الظلام أن شمس الحرية هي التي تشرق في النفوس ليل نهار، إنه اليوم حر تماماً لا كما كان الطاغية ينادي بالحرية، ثم يرتكب أفظع الجرائم من القتل والسجن والنفي والتعذيب الخاص والعام لشعبه باسم هذه الحرية والديمقراطية، يتذكر صاحبنا وهو يفرح ويصدح أن الشعب أي شعب إذا أراد الحياة الحرة الكريمة السعيدة فإن الله يوفقه لبلوغ شاطئها ثم الإبحار في العباب دون خوف من الوحوش والمتجبرين: إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر أي قدر الله فإنه يكون في صالح الذين أذعنوا للسنن الإلهية في الأمل والعمل والتغيير والإصلاح، أليس ابن عطاء الله السكندري كان يقول في حكمه العطائية: إن لله عبادا إذا أرادوا أراد أي إذا أرادوا الهداية والثبات على الحق، أراد توفيقهم إلى ذلك وكان معوانا لهم في تحقيق أهدافهم، لقد حرك الشاعر العملاق الشاب أبو القاسم الشابي مشاعر الأمة بشعره المؤثر الجميل الذي كان ومايزال وقودا حياً في المعركة وزادا لا يستغنى عنه عند المتظاهرين والمحتجين في كل مكان ضد الظلم والطغيان، وهو الذي بعث الأمل وبين أن الضعف الذي ألحقه الحكام في النفوس لن يمنع من الانتفاضة عليهم: سأظل رغم الداء والأعداء كالصقر فوق القمة الشماء إن إرادة الشعب من إرادة الله وإن حريته هبة من الله لا يجوز لأحد أن يحاصرها أو يحتلها، إن صاحبنا لا ينسى وهو يهتف ما أصَّله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في معنى الحرية عندما قال: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، وكذلك مقالة علي رضي الله عنه: لا تكن عبد غيرك فقد جعلك الله حراً، كأن هذه الحرية المطالب بها هي المذهب الإنساني من حيث الأصل ليقول كل امرئ: إنني حر ومذهب كل حر مذهبي كما أنشدنا الشاعر أبو ماضي وهي تعني أن الإنسان لا يمكن أن يتنازل عن شيء منها ولو فعل لباع دينه وعرضه وكان خاسراً: الحر يأبى أن يبيع ضميره بجميع ما في الأرض من أموال كما قال الشاعر محمد الفراتي أو كما نبه المثل أن تموت جوعاً وأنت حر خير من أن تعيش عبداً وأنت سمين، نعم إنه الفرق الكبير بين حياة العز وحياة الذل كما قال المتنبي: عش عزيزاً أو مت وأنت كريم بين طعن القنا وخفق البنود يتذكر صاحبنا أن ثورة المحتجين في جميع ربوع تونس كانت سلمية وردية ولكن الطغاة هم الذين جعلوها شلالات من الدماء، لا بأس فهي قد لا تنال إلا بهذه المهور كما قال شوقي: وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق أو كما قال غاندي الهندي: إن طريق الحرية يجب أن تمهد له الدماء والأشلاء، ذلك أنه حيث توجد الحرية يكون الوطن ومن دونها يظل سجنا كبيرا للبشر كما قال أحدهم: حيث تكون الحرية يكون الوطن، ثم إنا إذا أردنا أن نحلل بعض شعارات صاحبنا نرى أنه إنما قصد بالحرية تلك التي تكون مسؤولة لا تنطلق إلا بعصمة الدين ومصباح العقل الذي هو أساس الشرع ويقول (لبنتز) العقل روح الحرية، وعلى هذا فمبناها ومعناها يجب أن يرتبط بالمسؤولية العاقلة التي تحفظ لها بقاءها وخلودها لأن المحافظة عليها أهم من الحصول عليها كما يقول فؤاد شهاب ولا حرية دون مسؤولية، كما قال جان جاك روسو وكما قال فيكتور هيجو: الحرية هي الحياة ولكن لا حياة بلا فضيلة فيا إخوتنا في تونس الحبيبة والعالم أجمع لنفهم حقيقة الحرية وننفذها وألف مبروك للشعب الذي جاهد وانتفض فاستجاب له القدر.