18 سبتمبر 2025
تسجيلمثلما شعر الكويتيون بأن الخامس والعشرين من فبراير عام 1991، هو يوم مشهود أو استقلال جديد للبلاد وبداية لحياة نوعية مختلفة للكويت من بعد كارثة القرار المتهور للعراق باحتلال البلاد، فإننا في قطر يكاد الشعور ذاته يسري في أوصالنا، وأن الخامس من يونيو 2017 صار يوم استقلال جديد لدولة قطر، يجوز لنا التفكير في الاحتفاء به سنوياً كيوم تاريخي مشهود.. فهل هو كذلك؟ بادئ ذي بدء، قد يعتقد أحدنا أن أزمة الخليج بدأت مع كذبة سكاي نيوز أبو ظبي فجر الخامس والعشرين من شهر مايو الفارط ، وتمثيلية الفبركة وما تبعتها من تطورات وأحداث.. والصحيح أن الأزمة بدأت منذ عملية سحب الثلاثي الخليجي سفراءهم عام 2014 وما تلاها من أحداث. إذ بُعيْد انتهاء الأزمة وتصفية الخلافات – وإن كانت ظاهرية – كان شعور مختلف قد بدأ يسري في الوجدان السياسي القطري، مفاده أن الأمر قابل للتكرار بصورة ربما أسوأ.. ولأن المؤمن لا يجب أن يُلدغ من جحر مرتين، فقد تمت على الفور ترجمة ذاك الشعور إلى أفعال وإجراءات دون ضجيج وكثير أضواء، هي ما عايشناها ورأيناها من إجراءات وأفعال بعد بدء الحصار بقليل.. الرغبة القطرية في أن تكون للدولة شخصيتها ورأيها الخاص في كيفية إدارة مصالحها الآنية والاستراتيجية، بدأت بشكل واضح بعد حادثة أزمة الخفوس عام 1992، والتي تحدثنا عنها في مقالنا قبل السابق، حيث ساهمت في تعميق الخلاف السياسي بين قطر والسعودية، ودفعت قطر دفعاً للبدء في صناعة شخصية خاصة بها، ضمن الإطار المتفق عليه والمعلن من خلال منظومة مجلس التعاون الخليجي، حيث الاحترام التام من الجميع لسيادة الدول الأعضاء. بدأت الخطوات الفعلية لصناعة الشخصية القطرية مع التغيير الذي حدث في رأس الهرم السياسي، مع تولي سمو الأمير الوالد قيادة البلاد عام 1995، وساعد ظهور قناة الجزيرة عام 1996 للإسراع في خطوات تلك الصناعة، مع ما رافق ذاك الظهور الإعلامي، من توسيع ملحوظ لهامش التعبير والذي شمل كل وسائل الإعلام المحلية، مع انفتاح سياسي متدرج تمثل في انتخابات حرة نزيهة لأول مجلس بلدي منتخب، وغيرها من مظاهر صناعية وعمرانية وما شابهها.. بدأت إثر ذلك تتكون شخصية الدولة السياسية، وبدأ الدور القطري يؤثر هنا وهناك وبشكل متدرج، حتى بدأت تلفت الانتباه وتتحول إلى رقم صعب في عالم السياسة الخليجية والعربية لا يمكن الاستغناء عنه أو تهميشه. ومع اكتشافات الغاز الطبيعي، تحولت قطر إلى رقم صعب آخر في الاقتصاد العالمي، ثم صارت حديث العالم بعد فوزها في استضافة كأس العالم 2022 ولم تقف عند هذا الحد، بل بدأت جدياً في استثمار فوائض النفط لتصنع منها صندوقها السيادي وتدخل عالم تنويع الاستثمارات في عواصم القرار الاقتصادي والسياسي بالعالم، حتى صارت قطر ذات المليونين من السكان وأحد عشر ألف كيلو متر مربع من الأرض، دولة تلفت الأنظار وتفرض على الجميع احترامها وكسب أنظار الجوار والأقربين، إذ لم تكن نظراتهم لتطورات الأمور في قطر، نظرات إعجاب بقدر ما كانت حسداً بغيضاً مخلوطاً بطمع لا حدود له، وكانت نتيجة ذاك الحسد والطمع هو هذا الحصار الذي تعيشه قطر، حكومة وشعباً. لا نريد أن نتعمق وندخل في تفاصيل هذا الموضوع الذي أشبعناه طرقاً وبحثاً، لكن يمكننا أن نوجز كل ما سبق ونقول إن قطر يوم الثالث من سبتمبر عام 1971 حين أعلنت استقلالها عن التبعية للقرار البريطاني، فإنما أعلنت عن قيام الدولة القطرية الأولى إن صح التعبير. ثم جاء يوم السابع والعشرين من يونيو عام 1995، وتولى سمو الأمير الوالد دفة القيادة في قطر، ليجسّد الرغبة في صناعة الشخصية القطرية المستقلة، وإعلان الاستقلال عن التبعية للقرار العربي المتفرق بين هذا وذاك، لتبدأ إثر ذلك الدولة القطرية الثانية.. حتى جاء الحصار الغاشم وما تبعه من أحداث وإجراءات وقرارات وإلى يوم الناس هذا، حتى بدا وكأن الدولة القطرية الثالثة قد أزف أوانها، أو أنها بدأت فعلياً بعد الضغط الهائل من الخارج، وكأنما الرباعي المتأزم الذي حاصر قطر للنيل من سيادتها، يدفع بها للعكس من ذلك، ليتحول يوم الخامس من يونيو 2017 من غير ترتيب مسبق إلى يوم استقلال جديد للدولة، لتضع عنها أخيراً عبء التبعية للقرار الخليجي الهزيل في غالب المجالات والأصعدة.. الأمور إذن تتجه في هذا المسار، وتأكيدات سمو الأمير في خطاباته الأخيرة وخاصة خطاب افتتاح دور الانعقاد الجديد لمجلس الشورى أول أمس الثلاثاء، تفيد بأن قطر لن ترجع كما كانت قبل الخامس من يونيو، في إشارة واضحة إلى أنها تغيرت، بل لابد أن تتغير وتأخذ بزمام أمرها وتتولى هي بنفسها جميع شؤونها، بعيداً عن ضغوط البيت الخليجي الواحد أو القرار الخليجي الموحد أو غيرها من تلك الشعارات، التي لم تسمن الخليج ولم تمنع عنه الاضطراب والفوضى ومزيد فرقة وتشتت.. الخطاب الأخير لسمو الأمير، تضمن أبرز ملامح الدولة القطرية الثالثة، منها الاستقلالية في القرار السياسي والاقتصادي، بعيداً عن تأثيرات الآخرين من المحيط إلى الخليج، لا سيما دول الحصار. وقد جاءت عبارة سموه:" فنحن بألف خير بدونها "، لتوضح الكثير وتستشرف مستقبل دولة، تريد تعزيز مكتسباتها والعمل على ديمومة تنميتها بخطوات واثقات، دون تبعية أو وصاية من هذا وذاك وتلك.. بناء على ما سبق، فإني أرى تمام الوجاهة في أن يتحول الخامس من يونيو ليوم تاريخ وطني، وبداية حقيقية للدولة المنشودة، إيذاناً ببدء عهد الدولة القطرية الثالثة، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا..