11 سبتمبر 2025
تسجيل"جاء لينفي فأثبت"، مثل عربي ينطبق على بعض عقلية الإدانة لدى المتابع العربي ،وخصوصا أولئك الذي تشربوا بمباديء الدين السياسي من حيث يعلمون أو لا يعلمون، ،،"ندين الفعل الإرهابي بباريس ولكن،،،، ثم يعقب: "لكن هذه تذكرة بما فعلته فرنسا وتفعله في سوريا ومالي وقبلها بالجزائر قبل خمسين عاما"، وهي تذكرة ليست بالبريئة إطلاقا، وتنسف صدقية أي إدانة حقيقة لعمل هجمي دموي مثل الذي جرى بباريس يوم الجمعة الفائت، نحن الذين نعيب على ألمانيا دفعها تعويضات لإسرائيل لما اتركبته النازية ضد يهود أوروبا، ولسان حالنا يلهج:"تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا تسألون عما كانوا يفعلون"، ولكن بعضنا يرى –وإن بشكل ترميزي- أن فرنسا تستحق ما جرى لها بسبب سايكس بيكو واحتلالها للجزائر والمغرب وتونس، وهي عقلية ثأرية من جهة- وعدمية يائسة من ناحية أخرى. هناك فرق بين الإدانة وبين الشرح –ولا أقول التبرير للأعمال الإرهابية، المنسجم مع نفسه يدين العمل الإرهابي أينما كان: بفلسطين وسوريا واليمن والعراق وإيران وماينمار والكويت والبحرين والسعودية ومصر وباريس وأي مكان بالعالم، إلا أن الإدانة شيء، ومحاولة التبرير باسم "لكن" الشرحية (من الشرح) شيء آخر. "ندين العمل الإرهابي بفرنسا، ولكن ماذا عن الإرهاب بسوريا والعراق وافغانستان وفلسطين الخ؟" وترجمة هذه العبارة بالتحليل اللغوي هي الاحتمالات التالية:-ندين العمل الإرهابي بفرنسا ولكننا نتمنى أن ينتبه العالم لما يجري من إرهاب عندنا.-ندين العمل الإرهابي بفرنسا، ولكننا ندين بدرجة أشد ما يجري من إرهاب عندنا.-ندين ماجرى لأننا نستحي أن نخرج كوامن ما في قلوبنا ضد الآخر.-لماذا ندين ما جرى فهو روتين دائم عندنا.-لا ندين العمل الإرهابي بفرنسا، لأن هناك أعمالا إرهابية أشد منه وأنكى هي بحاجة لتكريس إدانتنا لها.-تستحق فرنسا (بغض النظر عن أبريائها) ما جرى لها، لكننا ندين العمل الإرهابي الذي جرى لأنه لا يمثلنا. القراءات أعلاه هي ترجمة تحليلية لغوية لبعض إداناتنا والتي يعكس بعضها إحباطا وتناقضا، وبعض تلك الإدانات يعكس دناءة وتبلدا في الشعور. إن الواجب الإنساني والأخلاقي يستلزم إدانة العمل العشوائي الدموي الذي يستهدف الأبرياء بشمولية أخلاقية لا تعرف الانتقائية ولا "اللّكننة"، وهي إدانة وازعها إنساني يتعاطف مع الإنسان في أي مكان ومن أية جنسية أو دين أو لون يكون، وما عدا ذلك فليس بإدانة، وإنما إهانة للضحايا والأبرياء الذين يتساقطون بعمليات الإرهاب في كل مكان. إن موقف الإدانة موقف أخلاقي مطلق غير مرهون بمواقف فرنسا الرسمية، ولا هو مرتبط بدرجة أخلاق الآخرين، فهو موقف مبدئي لا يعرف أن يستثني الأبرياء ولا "يُلكْنن" عند هذه الضحية أو تلك. فهل نؤيد قتل الأطفال بإسرائيل لأن إسرائيل الدولة تقتل الأطفال والأبرياء العزل؟ وهل نلكنن حين يتساقط الأبرياء عشوائيا بباريس لأن فرنسا الاستعمارية ارتكبت جرائم حرب بمستعمراتها في الماضي؟ وإلى أي مدى بالتاريخ سنعود بعقليتنا الثأرية ضد الآخر؟ وكيف تختلف هذه العقلية الثأرية عن العقلية الداعشية التي تطالب بقتال جميع من في الأرض إلى أن يذعنوا لخلافتهم ويسلموا ويبايعوا خليفتهم أو أن يدفعوا الجزية وهم صاغرين؟ حتى كتابة هذا المقال، لم تتضح هوية القتلة بباريس بعد، ولكن عقلية التنصل من المسئولية تتمنى أن يثبت أنهم فرنسيوا المولد والتعليم والعيش، كي نعزز تنصلنا من أية مسئولية تجاهم، لنتهم فرنسا والغرب بتربية هؤلاء وتعليمهم على الإرهاب، وهذا هروب من الواقع إن ثبت، ومنافاة للحقيقة لو تم، فهؤلاء قتلوا باسم ديننا، وهتافاتهم الجهادية نحن منشأها ومصدرها، والقول بأنهم مشكلة أوروبية يدحضها مظاهراتنا التي اجتاحت مدننا العربية والإسلامية منددة برسام دنمركي تافه أو بكاتب بريطاني مغمور أتفه أسلوبا كتب كتابا لا يستحق القراءة، حينها خرجت مظاهرات متسلحة بفتوى قتل الكاتب البريطاني ومتوعدة الدانمرك بالويل والثبور وعظائم الأمور، لكن حين يكون القتل العشوائي ببشاعة باسم ديننا، فلا مظاهرات تنديد، ولا فتوى ولا وعيد، فهم مشكلة أوروبية بسبب جرائم أوروبا التاريخية ضد المسلمين.أدرك أن للساسة حساباتهم، وللدول مصالحها، ولمراكز القوى ومراكز التأثير تكتيكاتها لاستثمار مأساة مذابح باريس، ولكن عتبي على من يدعون الثقافة والمباديء ممن يلكننون ويجترون التاريخ لتبرير جرائم الإرهاب. أخفقت فرنسا إخفاقا استخباريا فظيعا، وفشلت أجهزتها الأمنية فشلا ذريعا، وسنرى عواقب ذلك الفشل بتغيرات وزارية قادمة، وتحكم اليوم بلد "الأخوة والمساواة والحرية"-وهي شعارات الثورة الفرنسية- أحكاما عرفية، كما سنرى ردة فعل ذلك الإخفاق وتلك الجريمة ينعكس على التضييق على الحريات المدنية وتحديدا حريات العرب والمسلمين، وهي نتيجة طبيعية محزنة في مثل هذه الظروف، لكن لتسمح لي فرنسا بلكننة واحدة فقط: ليس كل المسلمين إرهابيون، وليس كل الإرهابيين مسلمون!