03 نوفمبر 2025

تسجيل

حين تصبح السياسة غابة من الوحوش

16 نوفمبر 2014

googletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); إذا أراد الانضمام إلى اليمين أخذ أقصى اليمين، ولم يترك أحدا يسبقه. وإذا غيّر رأيه وأراد التوجه إلى اليسار شقّ دربه نحو يسار اليسار وبات ناطقاً باسمه ومعبراً عن مواقفه وعلماً من أعلامه، أما إذا أراد أن يكون وسطياً كما هو حاله هذه الأيام، احتل الصف الأول بين أهل الوسط، وبدأ التنظير على أهل اليمين واليسار بأهمية الوسطية، وضرورتها في هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها البلاد. هذا هو حال الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، الذي يشهد جميع اللبنانيين على حنكته السياسية التي أسهمت في منح دروز لبنان حجماً أكبر من حجمهم، ودوراً أهم من دورهم.يُشتهر جنبلاط بتغيير مواقفه باستمرار، هو لا يلقي بالاً لما سيُقال عنه، ولا يعبأ بتحالفاته السابقة إذا اقتضت مصلحته ومصلحة من يمثل أن ينتقل إلى الجانب الآخر. لا يضيع الكثير من الوقت في تبرير انقلاباته المتتالية، ملتزماً المثل اللبناني القائل "ألف قلبة ولا غلبة".ثقة مناصري جنبلاط بزعيمهم مطلقة، يؤيدون مواقفه دون الحاجة ليبررها لهم، فهم يدركون أن هدف "البيك" الدائم هو تحقيق مصلحتهم، ولو كان في ذلك انقلاب على المبادئ والقيم والأخلاق.يكسر وليد جنبلاط بأدائه هذا المفهوم السائد للسياسة بأنها "فن الممكن"، ليشكل علماً من أعلام مدرسة مقابلة عنوانها "المصلحة"، فالسياسي حسب هذه المدرسة لا ينجح إلا إذا حقق مصلحة الفريق الذي يمثله، من المفضل أن تتحقق هذه المصلحة بالتوازي مع القيم والأخلاق والمبادئ، لكن إذا حصل أي تعارض تكون الغلبة للمصلحة التي تعلو ولا يُعلى عليها، وتصبح القيم والمبادئ والأخلاق تفصيلاً يمكن تبريره لاحقاً، مهما أدى ذلك لخلافات وصراعات وتشنجات وتوترات مع القوى الأخرى.وليد جنبلاط ليس وحده من التحق بهذه المدرسة، فالكثير من السياسيين في لبنان والمنطقة العربية يسيرون على ذات النهج، لكن يبقى جنبلاط الأكثر صراحة ووضوحاً بين أقرانه، الذين يحاولون تغليف تبدل مواقفهم والانقلاب على مبادئهم بمحاولة استغباء الشعوب.وجود مدرسة "المصلحة" لا ينفي وجود مدرسة أخرى قد يعتبرها البعض متخلّفة ولا تصلح للعمل السياسي، هذه المدرسة تقوم على السعي لتحقيق المبادئ والقيم التي يؤمن بها أصحابها، حتى ولو كانت لا تحقق مصلحة لأصحابها، الذين يعتبرون أن بناء علاقة جيدة مع القوى الأخرى أولوية، فيحرصون على عدم إزعاج أحد، أو الإساءة إلى أحد. وإذا انتُقدوا من الآخرين، لا يبادلونهم النقد، فلا تجريح ولا تصريح، بل غمز وتلميح. أما المواقف والتصريحات التي تصدر عنهم، فإن القارئ يضطر للتأمل فيها مرتين أو ثلاثاً لفهمها، بسبب حرص أصحابها على عدم الإساءة لأحد. المنتمون لهذه المدرسة مُتهمون بأنهم لا يفقهون العمل السياسي.أداء هؤلاء السياسيين مبني على المبادئ والأخلاق وربما الشرع. إذا تحالفوا، لا يخلّون بتحالفهم ولو طعنهم الآخرون بظهرهم. وإذا التزموا موقفاً يسيرون به حتى النهاية ولو تراجع عنه جميع من كان إلى جانبهم. لا يعبأون إذا كانت قراراتهم لا تلقى القبول من محيطهم. ولا مشكلة لديهم إذا بدأ المناصرون والمؤيدون بالتخلي عنهم، أما "المصلحة" فإذا وُجدت في قاموسهم، فهي لتحقيق مصلحة الجميع، مصلحة الوطن، مصلحة الأمة، مصلحة الشعب كله دون تفريق بين من يؤيد هذه الفئة أو تلك.. هم قوم صالحون شرفاء أتقياء "أوادم"، لكنهم حتماً ليسوا سياسيين حسب القاموس اللبناني والعربي.مشكلة "الأوادم" أن أداءهم لا يتناسب مع الوسط الذي يتحركون فيه، فيبدون كأنهم نشاز عن القاعدة. ربما يكونون على حق والآخرون مخطئون، لكن ما لا يعرفه هؤلاء أنه لا مكان للآدميّة في العمل العام، وقد قيل "الآدمي أزوّجه ابنتي لكن لا أعمل معه". ربما يسعد الآخرون بلقاء الآدمي، ويثنون على صلاحه ويطمئنون له، لكن أحداً لا يعبأ به إذا لم يكن قوياً، لا بأس أن يغيّر القوي جلده كل يوم، لا بأس أن ينقلب على المواقف والتصريحات والمبادئ التي كان يعلن أنه يؤمن بها، لا بأس أن ينقلب على أصدقائه فيعاديهم ويتحالف مع خصومه السابقين، كل ذلك لا يهم، ولا يؤثر في احترام الآخرين له. فالزمن زمن الأقوياء، والقوي بالمفهوم اللبناني والعربي هو من يملك حيثية شعبية حقيقية، متماسكة وقادرة على التحرك حين يُطلب منها، سواء كان قائد هذه الحيثية على حق أم على باطل لا يهم، وسواء كان يتحرك تحت سقف القانون أو فوقه. مهما كانت مواقف القوي مرفوضة وجافة ونافرة وتُعارض وجهة نظر الجهة الأخرى، لكنها ستبقى مقدّرة طالما كان صاحبها مؤمناً بها ويؤيدها مناصروه ومحازبوه ومستعدون للدفاع عنها.ليس صحيحاً أن مدرسة "المصلحة" المتبعة في لبنان ومنطقتنا العربية هي السائدة في العالم. فالغرب مازال يحتفظ بحد أدنى من القيم والمبادئ والأخلاق لا يتجاوزها أياً كانت المصلحة التي يمكن تحقيقها، وإذا تجرأ الحكام على تجاوزها، حاكمهم الشعب بإسقاطهم من خلال صندوق الاقتراع. في حين أن الدول والقوى والأحزاب في منطقتنا العربية التي مازالت تعمل وفق هدي قيمها وأخلاقها وشرعها متهمة بأنها تسير عكس التيار، وتُكال لها الاتهامات والانتقادات، فالسياسة في منطقتنا تحولت إلى غابة لا يعيش فيها إلا الوحوش.