18 سبتمبر 2025
تسجيلإن التعثر المتزايد الذي انتاب العديد من الشركات والمشاريع الاقتصادية الكبرى في بعض دول مجلس التعاون في الآونة الأخيرة، يشير إلى أن الكثير من هذه المشاريع لم تكن مجدية أساسا وغير قابلة للاستدامة، لأنها لم تستوف دراسات جدوى حقيقية. فهي إما أن تفشل بعد إطلاقها ولو بعد حين كبعض الشركات والمشاريع التي تتعثر الآن في الإمارات بالقطاعين العقاري والمالي، أو لا ترى النور أساسا لتعثر اطلاقها كما في عدة مشاريع في المملكة العربية السعودية، كطرح أسهم أرامكو، ومشروع الطاقة الشمسية، ومدينة نيوم وقناة سلوى المتشكك في جدواهما. ◄ توسع مفرط وكالعادة يكون هناك توسع مفرط في مثل هذه المشاريع وفِي القطاع العقاري على وجه الخصوص مع ارتفاع الفوائض النفطية، ثم بعد انهيار أسعار النفط ينهار معها الكثير من هذه المشاريع. فهناك علة يصاب بها السياسيون مع تهاطل الدولار البترولية عليهم وهي قصر النظر الذي يؤدي إلى الإفراط في التفاؤل والتوسع في الإنفاق غير المدروس على مشاريع قد لا تكون مجدية ولا قابلة للاستدامة، بل قد تقود إلى نتائج كارثية. والأمثلة على ذلك كثيرة منها: مشروع النهر العظيم الذي أطلقه القذافي في قلب الصحراء الليبية. إن الكثير من هذه المشاريع ومنها شركات الطيران، تعتمد على الدعم الحكومي الذي يعتمد بدوره على مداخيل النفط، وعلى تفاؤل مفرط بأسواق رائجة. وقد تكون هذه المشاريع أيضا بهدف المفاخرة والمظاهر الاحتفالية، كما قد يدخل فيها عامل الفساد وتربح بعض الأطراف المتنفذة التي قد تكون على علم مسبق بعدم جدواها ولكنها مع ذلك تنفذ بهدف التربح. لكن عندما تتقلص مداخيل النفط وتنكمش الاقتصادات، يتقلص الدعم الحكومي لتلك المشاريع، ويتقلص مع ذلك أيضا حجم الطلب عليها سواء كان محليا أو خارجيا، بل ويتقلص الطلب على المنطقة بأسرها، وعلى الاستثمار بها. فكل شيء في هذه المنطقة مرتبط ببرميل النفط، ويقيم من منظور العالم الخارجي من هذه الزاوية الضيقة. وعادة ما تنتهي دورة الرواج النفطية بفقاعة في أسواق الأصول، يتبخر معها الكثير من قيم الأصول ومدخرات الأفراد، وترتفع بعدها العجوزات الداخلية والخارجية ومستويات الدين العام، وتدخل الاقتصادات في دورة انكماش قد تطول حتى تعاود أسعار النفط ارتفاعها من جديد في دورة رواج نفطية جديدة تتبعها دورة انهيار أخرى. وهكذا يتكرر هذا النمط في دول مجلس التعاون منذ صدمة النفط الأولى عام 1973 حتى يومنا هذا. فلا يزال النمو والتوسع الاقتصادي مرتبطا بشكل مباشر بدورة أسعار النفط، ويعتمد على مدى الانكشاف عليها. ◄ تخبط في السعودية لكن اللافت هو أن روح المغامرة بل المخاطرة طغت في الفترات الأخيرة، كما لم يسبق له مثيل في تاريخ هذه الدول، من سرعة الأقدام على تبني مشاريع كبرى وسياسات لها تبعات اقتصادية واجتماعية وسياسية جسيمة في المملكة العربية السعودية على وجه الخصوص، اذ لا تخلو سياسات المملكة الحالية من العشوائية والتخبط أحيانا، والتهور أحيانا أخرى كمشاريع؛ شق قناة بحرية حول قطر وجدوى ذلك اقتصاديا وسياسيا، وبيع اسهم أرامكو من عدمه، ومدينة نيوم المشكوك في جدواها الاقتصادية والقدرة على تمويله، وإطلاق ثم إلغاء مشروع للطاقة الشمسية بتكلفة 200 مليار دولار، ولجوء صندوق الثروة السيادي السعودي للاقتراض لسد فجوة تمويلية، والمفترض في الصناديق السيادية أن تغني عن الاقتراض، وقد أشارت دراسة نشرت عام 2015 إلى أن المملكة ستستنزف احتياطاتها الأجنبية بحلول 2020. اضف إلى ذلك حادثة الريتزكارلتون وتبعاتها السلبية على المزاج الاستثماري في المملكة، لتتبعها حادثة خاشقحي غير محسوبة العواقب كالقشة التي قد تقصم ظهر البعير، ولتكون المحفز الأكبر الذي يمكن أن يكشف للعالم مستوى العقلية ومدى الرعونة والتهورالتي يمكن أن يقدم عليها بعض الأطراف في القيادة السعودية الحالية متخطية كل الخطوط الحمراء والحدود الجفرافية والسياسية، والقوانين والاعراف الدولية، لتلقي بظلال أشد قتامة على مستقبل الاستثمار في المملكة وشراكاتها الاقتصادية ومصداقية سياساتها الاقتصادية وغير الاقتصادية ومدى قابليتها للاستمرار، بل وقابليتها لزعزعة الاستقرارالاقتصادي وحتى السياسي، وهو ما يضع حلفاء النظام في المملكة من السياسيين او من شركائه الاقتصاديين في وضع صعب ومحرج، ويدفعهم نحو التخلي عنه والنأي بانفسهم عنه وهو ما يجرى الأن بالفعل. فإذا ما ثبت تورط النظام في المملكة في قتل خاشقحي في قنصلية بلاده في إسطنبول فسيكون لذلك عواقب اقتصادية وسياسية وخيمة قد تطول أعلى سلم مُتَّخِذي القرار في السعودية وتحدث تغيرا في تركيبة السلطة، وهناك حديث عن احتمالية فرض ترامب لعقوبات اقتصادية وإن كنت استبعد ذلك، فالارجح أن يستغل ترامب حادثة خاشقجي للمزيد من ابتزاز السعودية، مع محاولة ايجاد مخرج للنظام السعودي من هذه الورطة. وكذلك الحال - وإن كان بنِسَب متفاوتة – فيما يتصل بالتحول الذي طرأ على مصداقية السياسات الاقتصادية في الإمارات على إثر الأزمة الخليجية وإسهام ذلك في التأثير سلبا على مناخ الاستثمار فيها، خاصة دبي في ظل التوسع العقاري المفرط وبناء المدن الترفيهية في نموذج دبي الاقتصادي ومن يحاول الاقتداء به من محيط الجوار، والذي بدأت ملامح فشله تلوح في الأفق مرة أخرى بعد الصدمة الأولى التي تعرض لها على إثر الازمة المالية العالمية عام 2008. ولكن أكثر ما يثير الاستغراب هو أن تأتي هذه الخطط والمشاريع في إطار رؤية اقتصادية متكاملة بناء على وصفة وضعتها شركة مكنزي للمملكة العربية السعودية، بما عليها من ملاحظات كثيرة، منها الخلل في التحديد السليم للأولويات والإصلاحات الهيكلية المطلوبة في المملكة لتعزيز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي أولا وقبل كل شيء (توفير السكن، والصحة والتعليم، والوظائف للمواطنين) والحد من الانكشاف الكبير والمزمن على دورة أسعار النفط وتقلباتها، الى التبعات السلبية لتلك الخطة على سوق العمل وأداء القطاع الخاص، والمنهجية التي طبقت بها الضرائب وتحميل عبئها على الطبقة الكبرى والاقل دخلا في المجتمع، وغير ذلك مما لا يتسع المجال لذكره الآن. أضف إلى ذلك ما استجد من تطورات كبرى على الساحة السياسية والجيواقتصادية بالمنطقة منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، وانخراط دول حصار قطر بشكل مباشر في قمعها وتمويل الثورات المضادة لها وتثبيت الدكتاتوريات الأخرى ودعمها بالمال والسلاح، كالبحرين وليبيا ومصر، في نقل واضح لصراع بقاء دكتاتوريات النفط الخليجية إلى خارج حدودها الجغرافية، إلى أخواتها دكتاتوريات محيط الجوار لمواجهة الخطر الداهم الجديد في عقر داره درءا لانتشاره. ◄ ريع النفط وعدالة التوزيع إن نموذج النمو الاقتصادي المتبع في دول مجلس التعاون منذ نصف قرن والقائم على استخراج مورد طبيعي واحد وهو النفط وإعادة توزيع مداخيله في الاقتصاد بشكل متسق مع تعزيز الأوضاع السياسية القائمة منذ عقود وتعظيم فرص البقاء في السلطة إلى ما لا نهاية، وليس بالضرورة أن يكون متسقا مع هدف عامة الشعب في تعظيم مخرجات التنمية والرفاه الاجتماعي، لم يعد قابلا للاستمرار، اذ أنه فشل في تحقيق الاستقرار الاقتصادي (استقرار الأسعار والدخل وتوفير الوظائف لأفواج الخريجين المتزايدة سنويا، والخدمات العامة والبنى التحتية من صحة وتعليم وسكن وعيش كريم للمواطن، بموازاة النمو السكاني). وفي ذلك إخلال خطير من جانب الدولة الخليجية الريعية بالعقد الاجتماعي الذي يستوجب على الدولة بمقتضاه توفير الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي وسبل العيش الكريم كحق مكتسب للمواطن من ريع النفط مقابل عدم المحاسبة السياسية. وهذه الظاهرة تبدو أكثر وضوحا وحدة في أكبر الاقتصادات حجما وأكثرها ثراء بالموارد الطبيعية والبشرية في المنظومة الخليجية، وهو الاقتصاد السعودي. وبالتالي فالنتيجة التي تبدو حتمية في ظل بقاء هذه الأوضاع على ما هي عليه دون إجراء الاصلاحات المطلوبة، هي زعزعة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي ومن ثم حتميا الاستقرار السياسي لهذه الأنظمة. وتشير دراسة نشرت في 9 من الشهرالحالي الى أن عدم المساواة في الدخل هو الأعلى في دول مجلس التعاون بين دول الشرق الأوسط الذي يعد بدوره الأعلى على مستوى العالم. فبحسب الدراسة تحصل طبقة أقلية فاحشة على الثراء مكونة من 10% من السكان على ما نسبته 65% من الدخل، في حين أن الكتلة الكبرى من المجتمع فقيرة، مع تشرذم الطبقة الوسطى، وذلك مقارنة بـ 37% في حالة أوروبا الغربية و55% في الولايات المتحدة، وأعلى قليلا من مثيلاتها في جنوب افريقيا وريثة نظام الفصل العنصري. أضف إلى ذلك يحمّل الآن هذا النموذج الفاشل أساسا عبئا إضافيا في محاولة للعب دور مماثل لتثبيت الدكتاتوريات الآيلة للسقوط في دول الجوار والمحيط الإقليمي ومحاولة إعادة تأهيل الساقط منها ليس حبا فيها ولكن درءا لانتشار العدوى منها (ولا يستبعد أن يشمل ذلك النظام السوري)، والإنفاق في سبيل تحقيق ذلك على التسلّح وتبديد ثروات شعوبها، والدخول في حروب استنزاف (كما هو الحال في اليمن). بل واستجداء الحماية من الغرب التي أصبحت مكلفة أكثر من أي وقت مضى في عهد الرئيس الأمريكي ترامب «الصديق المحب»، ولكن «الأحمق» الذي قد يؤذي صديقه من حيث يعلم أو لا يعلم، الذي لم يكتف بنصف تريليون دولار ظفر بها في زيارة خاطفة، بل لا يفتأ يطلب المزيد بمناسبة وبغير مناسبة، ويذكّر أصدقاءه وحلفاءه بطريقة فجة ومهينة بمدى هشاشة أنظمتهم التي لن يكتب لها البقاء لأسبوعين لولا حمايته لهم، ولذلك فعليهم الدفع ثم الدفع، وبالتي هي أحسن، مقابل البقاء. ◄ ابتزاز ترامب هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن ترامب لا يترك لحلفائه في «دكتاتوريات النفط الخليجية» مجالا لتنفس الصعداء والاستفادة ولو قليلا من ارتفاع أسعار النفط للتعويض ولو بعض الشيء عما لحق بها جراء انهيار أسعاره في أسواق تمر بتحولات هيكلية ومن غير المتوقع أساسا أن تعاود الارتفاع إلى سابق عهدها. فهو لا يزال يمارس ضغوطه عليهم بزيادة الإنتاج لخفض الأسعار في مفارقة عجيبة بين المطالبة بالدفع من جهة، والمطالبة بزيادة إنتاج النفط الذي يؤدي إلى تقليص مداخيل هذه الدول من جهة أخرى! فتركها في حيرة من أمرها! فمن أين تدفع مقابل تلك الحماية؟ الا إذا باعت أصولها وموارد أجيالها القادمة في باطن الأرض قبل أن ترى النور وتراها، أو إذا استولت على أراضي الغير وموارده بالقوة، ولكن لن يتم ذلك أيضا دون دفع مقابل لترامب. لقد كنّا نتصور أن تحول أو انهيار أنظمة الممالك النفطية الخليجية سيحدث بعد انهيار سعر برميل النفط وكساده أو عند نضوبه، لكن ما استجد من أحداث جسام بعد اندلاع ثورات الربيع العربي ووصول قادة قصار النظر ومن قليلي الخبرة، ومعهم ترامب، لسدة السلطة، وردة الفعل التي تتعامل بها هذه القيادات مع تطلعات شعوبها وشعوب الجوار العربي، نحو العدالة والكرامة والعيش الكريم والحرية، واستنزاف ثروات شعوبها في قيادة ثورات مضادة لقمع تطلعات تلك الشعوب ومحاولة تثبيت الدكتاتوريات الآيلة للسقوط وإعادة تأهيل الساقط منها، وخضوعها لابتزاز ترامب مقابل تثبيتها كأنظمة دكتاتورية استبدادية، فقد تبين أنها تقوم بفعل كل شيء، إلا الشيء الوحيد الصحيح والضامن لبقائها، وهو الاستجابة لمطالب وتطلعات شعوبها في الإصلاح والإشراك في القرار والثروة. فهذه الأنظمة غلبت عليها عقلية فرعون التي جبلت عليها فآثرت المواجهة، وعدم التنازل عن أي شيء، والاستحواذ على كل شيء، وهو ما لا يبعث على التفاؤل بمستقبل أكثر إشراقا لهذه المنطقة، ويخشى أن الانهيار قد أصبح أكثر قربا مما كان متوقعا، وقبل انهيار برميل النفط أو نضوبه.