12 سبتمبر 2025

تسجيل

خطابات الإنكار والاستئصال

16 أكتوبر 2013

أغرب ما يميز الانقلابيين في مصر هو عدم اعترافهم بأبسط قواعد المنطق، فبعد مرور شهرين على ارتكابهم أو مباركتهم لأكبر مذبحة تشن بحق مدنيين، والمعروفة بمذبحة فض ميداني رابعة والنهضة، مازال الانقلابيون متمسكين بمجموعة روايات متناقضة تهدف إلى تبرئة ساحتهم وإثبات أن مأساة الفض مختلقة. الأمر الذي يجعل من محاولة إجراء أي حوار عقلاني مع هؤلاء عملا مستحيلا. ومن أمثلة الروايات التي يروج لها الانقلابيون في هذا الصدد ما يلي. 1- أن الإخوان هم من قاموا بقتل أتباعهم لكي يتاجروا بدمائهم ويستجلبوا التعاطف الداخلي والخارجي مع قضيتهم، ثم يستخدمون هذا التعاطف للمساومة على عودة الرئيس المعزول. فالغرض من الاعتصامات وفقا لهذا السيناريو هو التعرض للموت، والدليل على ذلك أن ضحايا فض الاعتصام كانوا يرفضون عربات الإسعاف التي تحاول إنقاذهم، ويرفضون التعامل مع مستشفيات الدولة عندما كانوا ينقلون إليها، ويرفضون أن يخضع ضحاياهم للتشريح... إلخ. المشكل في هذا السيناريو أن أصحابه يتجاهلون الكم الهائل من الفيديوهات التي تظهر قوات الداخلية والشرطة العسكرية والقناصة وهم يستهدفون المتظاهرين، كما تتجاهل هذه الرواية شهادات شهود العيان وشهادات الأطباء الميدانيين (وكثير منهم لا ينتمي لجماعة الإخوان ولم يكن من المعتصمين أصلاً وإنما انضم إلى المستشفيات الميدانية بدافع من واجبه الطبي والإنساني). أما الآفة الثانية فتتمثل في أنه لو كان المتظاهرون يتاجرون بالموت فما الذي كان يضمن لهم أنه سيتبقى منهم من يجني ثمار مواجهتهم غير المتكافئة مع الجيش والشرطة. 2- أن "الإخوان" قتلوا معتصمي رابعة "المأجورين" عندما حاولوا مغادرة الاعتصام. فبعد أن استنفدوا الغرض منهم خشي قادة الإخوان أن يخرج هؤلاء إلى الإعلام فيفضحوهم ويظهروا حقيقة أنهم كانوا يتلقون الأموال منهم في مقابل البقاء برابعة لإيهام الرأي العام بأن أنصار الرئيس المعزول لا يقلون عن معارضيه في 30 يونيو. والدليل على ذلك السيناريو —من وجهة نظر أصحابه— هو الجثث التي ظهر المعتصمون وهم يحملونها في أكفانها البيضاء خارج المستشفى الميداني لحظة فض الاعتصام. لا يلتفت مروجو هذا السيناريو إلى أن الإخوان لو كانوا قتلة وسفاحين بالفعل لما اهتموا بتكفين ضحاياهم، فالتكفين في النهاية هو شعيرة دينية لا يعبأ القاتل أن يمارسها بحق ضحيته. وحتى لو سلمنا بأن هؤلاء قد كفنوا قتلاهم لإظهارهم أمام الإعلام كضحايا من الإخوان، فكيف نفسر أن كل هؤلاء الضحايا لم يظهر أي من ذويهم طوال فترة اختطافهم للسؤال عنهم أو محاولة اقتفاء أثرهم؟ 3- أن الإخوان لم يُقتل منهم أحد، وأن القتلى كان معظمهم في جانب القوات المهاجمة التي التزمت بالسلمية وضبط النفس، ففاجأهم الإخوان بنيران القناصة. أما ما ينشر من صور القتلى والجرحى في صفوف الإخوان فلا يعدو أن يكون صورا مركبة. والدليل هو الفيديو الذي يظهر أحد المصابين وهو يحرك قدمه بحركة مفاجئة عندما اقترب منه زميله لفحص إصابته، حيث يعد هذا الفيديو —وفقا لأصحاب هذه النظرية— دليلا على أن جميع الجرحى كانوا يتظاهرون بالإصابة وجميع القتلى كانوا يتظاهرون بالقتل، وما صور الحرق والتفحم إلا مجموعة من الصور المصنوعة أو التي تخص مجازر تمت في سوريا أو الشيشان ولا تخص الواقع المصري البعيد كل البعد عن هذه الدموية! المشكل في هذه الرواية أن أصحابها يسكتون عن غياب أي بيان بأسماء ضحايا قوات الأمن فضلاً عن غياب أي جنازات عسكرية لهم. كما يتجاهلون بيانات وزارة الصحة المصرية نفسها والتي أكدت مقتل المئات من المعتصمين (وإن كانت هذه قد أصرت على أن تسجل سبب الوفاة على أنه انتحار بعدة طلقات نارية!). الأغرب مما سبق هو أنه في الوقت الذي ينكر فيه الانقلابيون محرقتي رابعة والنهضة فإن الكثيرين منهم يروجون لخطابات تؤكد على حتمية استئصال كل مخالفيهم من الإسلاميين عموما ومن الإخوان على وجه الخصوص، ولا يخجلون من ترديد مثل هذا الخطاب في سياقات مختلفة وكأن إنكارهم للمحرقتين ليس نابعا من اعتبارات أخلاقية، وإنما لأن الجريمة المرتكبة فيهما كانت أقل من المستوى الذي يطمحون إليه وهو الإبادة الكاملة. خطاب استئصال المخالفين، ليس خطابا جانبيا أو هامشيا، ولكنه يعكس قناعات تتداولها النخبة المثقفة بكل جرأة وتتباهى بترديدها على الملأ، ومن هؤلاء دكاترة وأساتذة جامعة، وكان لي حظ (أو بالأحرى سوء حظ) الاستماع إلى ثلاثة شهادات منها مؤخرا. صاحبة الشهادة الأولى صرحت لي أنها لن تشعر بالأمان طالما ظل قادة الإخوان على قيد الحياة، مؤكدة أن الحل الوحيد لاستعادتها لأمنها الشخصي هو أن يتم الحكم عليهم بأحكام سالبة للحياة أو سالبة للحرية مدى الحياة، بغض النظر عن طبيعة الجريمة التي يحاكمون على أساسها، وما إذا كانت تستحق مثل هذه العقوبة أم لا. أما الشهادة الثانية فكانت لأحد كبار المثقفين اليساريين والذي صارحني بأنه لا يرى حلا لمشكلة سيناء إلا بإبادة كل الإسلاميين فيها مهما كان عددهم، مؤكداً أن هذه "الكائنات الإرهابية" لا تستحق الحياة. أما الشهادة الثالثة فكانت لأكاديمي مرموق أكد لي أن جماعة الإخوان تستحق الإبادة الكاملة، ولما راجعته في الكلمة، محاولاً تذكيره أن قواعد العدالة والإنصاف تقضي بحصول أكثر المجرمين جرما على محاكمة عادلة، كما أن مصطلح الإبادة هو مما يتأباه الذوق العام والمنهج العلمي، أكد لي أنه لا العلم ولا الذوق العام سيشعران بأي خسارة إذا ما تمت إبادة جنس الصراصير من على وجه الأرض (على حد وصفه). وبعيدا عن الصدمة التي يثيرها سماع مثل هذه الشهادات فإنها تبرز سؤالا جوهريا حول الهدف الحقيقي لما يسمى بـ"ثورة" 30 يونيو، المشفوعة بحركة 3 يوليو. وهل هو ترسيخ منطق اللامنطق، حيث يتم إنكار مذبحة الفض، وفي الوقت نفسه الترويج لثقافة الاستئصال والإبادة بحق المخالفين. وأن يأتي هذا على لسان النخبة المدنية التي كانت ترفع في الماضي راية التحذير من الإسلاميين بحجة أنهم دمويون لا يعرفون الحوار ولا يقبلون إدارة الخلاف بشكل سلمي!