14 سبتمبر 2025

تسجيل

إنهم أمةٌ واحدة من دون الناس

16 سبتمبر 2021

تحدث كثيرون عن دولة المواطنة عبر التاريخ، بدءاً من الإغريق ثم الرومان، ومروراً بالقبائل العربية في الجاهلية وبعد الإسلام، وصولاً إلى العصور الوسطى في أوروبا وما آلت الأمور إليه بعد الثورة الأمريكية والفرنسية حتى أيامنا هذه.. وقد تعددت الاجتهادات والتعريفات لمعنى المواطنة. كل أمة فسرتها وفق ثقافتها وظروفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حتى وصلت البشرية إلى ما عليها الآن من تفسيرات نتجت عنها مواثيق واتفاقيات تدعمها دول ومؤسسات. يأخذ بها البعض حرفياً، فيما يأخذ آخرون ما يناسبهم منها، وفريق ثالث يتجاهلها بصورة وأخرى. الأصل في البشر أن الله خلقهم لعمارة هذه الأرض بصورة لا يظلمون أحداً ولا يُظلمون من أحد. بمعنى أن الكل يعيش سواسية، لا فرق بين الناس. لا يتمايزون، بل الأصل ألا يحدث ذلك التمايز بينهم على ما لا دخل لهم فيها، كاختيار الأبوين، أو العرق والجنس، ومكان الميلاد. لكن لا شيء في التمايز بينهم، إن كان في العمل الصالح، ولا شيء في التنافس بينهم لما فيه خير الجميع، وهكذا. من هنا يتبين لنا أن الإنسان خلقه الله تعالى ليعيش حراً مع الآخرين في أي مجتمع بشري، بحيث تسود قيم العدالة والمساواة والكرامة بين الجميع، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات. لكن حين بدأت الطبائع الشريرة للبعض بالتغلب على الخيرية فيها، خرجت من ذلك البعض، فئات تريد أن تسود وتملك وتقود وفق هواها وتفسيراتها للحياة، كي تستأثر بالخيرات دون غيرها، وهذا أدى بالتالي إلى حدوث ما يُعرف بالتدافع والصراع بين الأقلية والأغلبية، ليس لشيء سوى المحافظة على ما كان يسود بينهم من قيم العدالة والمساواة، والرغبة في عدم طغيان فئة على أخرى. وبسبب تلك التطلعات غير السوية، بدأت رحلة البحث عما يسمى بالمواطنة عبر التاريخ وإلى يوم الناس هذا. وقعت أثناء هذه الرحلة الطويلة المستمرة، ثورات وحروب وصراعات، سالت فيها دماء، وأزهقت خلالها أرواح وأرواح. مفهوم المواطنة جاء في الموسوعة السياسية أن مفهوم المواطنة فكرة اجتماعية وقانونية وسياسية، ساهمت في تطور المجتمع الإنساني بشكل كبير، والرقي بالدّولة عن طريق تعزيزها للديمقراطية والشفافية في بنائها وتطورها، من خلال إشراك المواطنين بالحكم وضمان حقوقهم وواجباتهم. أما لغة، فالمواطنة مصطلح مشتق من كلمة الوطن، وهو المكان الذي يُقيم فيه الإنسان، سواء وُلد فيه أم لم يولد. والفعل منه (وَطَنَ) بمعنى أقام أو اتخذ المكان الذي يعيش فيه وطناً. من التعريفات الدقيقة الأخرى للمواطنة، ما كتبه الدكتور محمد عثمان الخشت في كتابه، فلسفة المواطنة وأسس بناء الدولة الحديثة: ".. والمواطنة في شكلها الأكثر اكتمالاً في الفلسفة السياسية المعاصرة هي الانتماء إلى الوطن، انتماء يتمتع المواطن فيه بالعضوية كاملة العضوية على نحو يتساوى فيه مع الآخرين الذين يعيشون في الوطن نفسه مساواةً كاملة في الحقوق والواجبات وأمام القانون، دون تمييز بينهم على أساس اللون، أو العرق، أو الدين، أو الفكر، أو الموقف المالي، أو الانتماء السياسي، ويحترم كل مواطن المواطن الآخر، كما يتسامح الجميع تجاه بعضهم البعض رغم التنوع والاختلاف بينهم". بشكل عام يمكن القول بأن المواطنة هي المساواة والعدالة. بمعنى أنه لا معنى للمواطنة دون أن يتساوى الجميع في الوطن في الحقوق والواجبات، دون أي تمييز على أساس العرق، أو اللّون، أو الجنس، أو القبيلة، أو المذهب الديني، أو حتى المعتقدات الفكريّة والسياسية. المواطنة هي الولاء والانتماء. بمعنى أن الجميع يعمل للوطن، سواء كان المواطن يعيش بالداخل أو الخارج. وهذا العمل يكون عبر مجموعة من المسؤوليات والالتزامات التي تفرضها المواطنة، واعتبار المصالح العليا للوطن فوق كل اعتبار. ثم أخيراً المواطنة هي استشعار روح المسؤولية وروح المشاركة في جميع مجالات الحياة بالمجتمع، السياسية والاجتماعية والفكرية وغيرها، وإتاحة المجال واسعاً للتنافس بين الجميع دون أي عوائق للمشاركة في إدارة الشأن العام، السياسي منه والثقافي، وكذلك الاجتماعي، والاقتصادي، وغيره. إنها باختصار شديد، بذل وعطاء، قولاً وفعلاً، وليست عبارات وأهازيج في حب الوطن، دون مساهمة فعلية في البناء والتنمية، وليست أخذاً دون عطاء.. النموذج القدوة لا يمكننا ونحن في سياق الحديث عن دولة المواطنة، أن نستمر دون التوقف والتأمل طويلاً في النموذج القدوة، دولة الإسلام الأولى التي أقامها الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – في المدينة. فما إن وطأت قدماه الشريفتان أرض المدينة، حتى بدأ في تأسيس قواعد الدولة المنتظرة، التي سيكون لها شأن عظيم بعد حين من الدهر قصير. حيث بدأ - صلى الله عليه وسلم - بما يُعرف في التاريخ بقصة الوثيقة أو الصحيفة، التي اعتبرها المؤرخون أول دستور في الإسلام. في ذلك الدستور، تم بيان الحقوق والواجبات وكذلك الالتزامات لكل سكان المدينة. وبمعنى آخر، وضع الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – قواعد ما نسميها اليوم بالمواطنة، وذلك من خلال تحديد هوية الانتماء للدولة لجميع رعيتها عبر الحقوق والواجبات والالتزامات، دون النظر إلى الانتماء الديني أو القبلي. فالمدينة كانت عبارة عن مجموعات أو مكونات اجتماعية عديدة، لكن بينها ما بينها من خلافات وأزمات، قامت بسببها حروب، وسالت دماء، وأُزهقت أرواح. الآن بعد مجيء الرسول الكريم إليها، تنوعت المجموعات تارة أخرى. هناك مسلمون من مهاجري قريش، ومسلمو الأوس والخزرج، وقبائل أخرى مشركة، بالإضافة إلى قبائل يهودية عديدة. ولأول مرة يتجمع المسلمون تحت مسمى أمّة، حيث نصت الوثيقة في مقدمتها أن هذا (كتاب من محمد رسول الله، بين المؤمنين من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس). والمقصودون في عبارة (من تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم)، هم الذين ما زالوا خارجين عن الإسلام لم يؤمنوا به بعد. وأما من لحق بهم، هم اليهود.. وبموجب تلك الوثيقة التي قبلها الجميع، صاروا مواطنين في الدولة، بغض النظر عن الدين والقبيلة والعرق. الآن الكل سواسية في الحقوق والواجبات والالتزامات. المواطنة نقلة حضارية لقد أحدث فيهم الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – نقلة نوعية غير مسبوقة بالجزيرة العربية. نقلهم من فكر الانتماء والولاء للقبيلة إلى فكر الانتماء والولاء للدولة. صار الجميع أمة واحدة، وكلمة الأمة هي التعبير القانوني والدستوري لمفهوم المواطنة - كما جاء في موقع قصة الإسلام - وأنها كانت خطوة حضارية متقدمة تجاوزت في بُعدها القانوني والاجتماعي الزمن والتاريخ بما فيه زماننا الحالي، الذي ما زالت فيه بعض الأمم ترى الانتماء القبلي والأسري والمذهبي والعرقي هو الهويَّة والمواطنة. المواطنة إذن وفق المفهوم النبوي هي الإطار الواسع الذي يستوعب الجميع، ويحافظ على حقوق الأقلية والأكثرية، عبر قيمة المساواة بين المواطنين، بغض النّظر عن الانتماء الديني، أو المذهبي، أو القبلي، أو العرقي، أو الجنسي، طالما الجميع يعرف حدوده ويعي تماماً واجباته والتزاماته تجاه الدولة ومكوناتها، مثلما يعرف أيضاً حقوقه. لقد كان من بين خسائر المسلمين في معركة أحد، مواطن من المدينة يهودي، ومواطن آخر مشرك، وقد خرجا مع الجيش المسلم دفاعاً عن دولتهم. لم يقل ذاك إنه يهودي ولا علاقة لي بدولة المسلمين، ولم يقل المشرك مثل ذلك، بل إن اليهودي وكان يُدعى مُخَيريق اليهودي، خرج رغم محاولة منعه من قبل البعض من قومه بالادعاء أنه يوم سبت، فقال لهم: لا سبت. وحمل سيفه وعُدَّته، وقال: "إن قُتلت فمالي لمحمد، يصنع به ما يشاء". ثم غدا إلى الحرب، فقاتل حتى قُتل. فقال رسول الله عنه: "مُخيريق خير يهود". هكذا فهم المواطنة، وهكذا كان الفهم عند الجميع. وبذلك الفهم، ساد المسلمون حيناً من الدهر.. لكن التراجع بدأ حين تغير الفهم، وعاد المسلمون إلى أفهامهم التي كانوا عليها قبل الإسلام.. فهل من مدّكر؟ [email protected]