14 سبتمبر 2025
تسجيلرغم أن قوات البنيان المرصوص حققت انتصارا إستراتيجيا بطردها إرهابيي «داعش» من مدينة سرت الواقعة على الساحل الليبي، فإن دول الجوار الجغرافي لليبيا، خاصة دول المغرب العربي، ينتابها القلق الشديد من عودة هؤلاء «الدواعش» الهاربين، وتتأهب الآن للتصدّي لهم، ومنعهم من الدخول مجددًا على أراضيها، تخوفًا من أن يعرضوا أمنها واستقرارها للخطر، من جراء قيامهم بعمليات إرهابية في بلدانهم الأصلية.ويجمع الخبراء المتابعون للأزمة الليبية المتفجرة منذ سقوط نظام العقيد القذافي في نهاية صيف 2011، أن ليبيا تحولت إلى بؤرة توتر كبيرة للتطرف والإرهاب، وباتت تشكل تهديدا حقيقيا، لأمن واستقرار كل بلدان المغرب العربي، وبلدان أوروبا المتوسطية، لاسيَّما إسبانيا وفرنسا وإيطاليا، بسبب وجود بنى تحتية للاستقطاب والتجنيد لصالح تنظيم «داعش» الإرهابي في مدينتي سبتة ومليلة المغربيتين والمحتلتين من قبل إسبانيا، إضافة إلى مدريد وبرشلونة، وباريس وروما. ويقدر عدد مقاتلي تنظيم «داعش» في ليبيا بحوالي 5000 مقاتل، إذ تؤكد المصادر الأمنية التونسية أن عدد التونسيين الذين تلقوا تدريبات في المعسكرات الليبية يتجاوز1000مسلح، عندما كانت ليبيا مجرد نقطة عبور لمتشددين ينتقلون إلى بؤر التوتر في المنطقة، لكن ما إن بدأ يتلقى تنظيم «داعش» ضربات قوية في كل من العراق وسوريا، حتى أصبحت سرت مُسْتَقَرًّا لبعض من هؤلاء المتطرفين التونسيين، الذين كان قسم منهم يقاتل في صفوف «داعش» في سوريا والعراق، ومنهم من كان في شمال مالي، ومنهم من سافر إلى ليبيا من تونس بعد سقوط نظام معمر القذافي.وقد عبرّ وزير الدفاع التونسي، فرحات الحرشاني، عن هذا الخوف التونسي من عودة «الدواعش» الهاربين من ليبيا عندما ذكر أن «الذين يعودون إلى بلدهم يريدون تكوين خلايا نائمة في المدن، أو الذهاب إلى المناطق الجبلية للإعداد لعمليات إرهابية». ولهذا السبب، كانت تونس ولا تزال متخوفةً من كل معركة يكون الهدف منها تضييق الخناق على الدواعش داخل ليبيا، عبر تدخل عسكري خارجي، وترى فيه تهديدًا مباشرًا لأمنها الإستراتيجي. فالفرع الليبي لتنظيم «داعش» منتشر بقوة في مدن عدة مثل درنة شرقًا، وصبراتة غربًا، مرورًا بسرت في الوسط، كما يتواجد عدد من معسكرات التدريب التابعة لجماعات متشددة أخرى مثل «تنظيم أنصار الشريعة» و«القاعدة في بلاد المغرب» وتنظيم «المرابطون». وتعتبر التنظيمات الإرهابية في بلدان المغرب العربي حلقات مترابطة لا تفصل بينها الحدود، فبين ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، يتمتع المسلحون بحرية كبيرة في الحركة مما يجعل من جهود مكافحة الإرهاب تحدِّيًا يستلزم جهدًا جماعيًا من هذه البلدان. ولأن التداخلات بين هذه الجماعات تنبع من وحدّة النشأة، فأكثر التنظيمات الإرهابية خرجت بالتسلسل من رحم «الجماعة المسلحة » التي أنشئت في الجزائر عندما بدأت الحرب الأهلية في ذلك البلد العربي في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، والتي انبثقت عنها «الجماعة السلفية للدعوة والقتال»، التي انضمت بدورها إلى تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» عام 2006، والذي أصبح منذ مطلع القرن المظلة الأساسية للحركات التي ظهرت بعد ذلك، قبل ظهور تنظيم «داعش» واجتذابه للعديد من أعضاء تلك الجماعات.تتفق دول المغرب العربي الثلاث (تونس والجزائر والمغرب) على إيجاد تسوية سياسية للأزمة الليبية بعيدًا عن التدخل العسكري الغربي عامة والأمريكي خاصة، الذي اتخذ من محاربة الإرهاب ذريعة ، ولاسيَّما «الداعشي» منه، ومن طلب حكومة الوفاق الوطني بزعامة فايز السراج التدخل العسكري، لكي يصبح أمرًا واقعًا. فالدول المغاربية تؤكد على وحدة ليبيا ووحدة الجيش الليبي وضرورة وقوفه على مسافة واحدة مع مختلف المدن، بعيدًا عن الجهوية والمناطقية والقبلية، وأن يكون السلاح حصرًا في يد الجيش على أن تكون أسلحة الشرطة والأجهزة الأمنية الأخرى بحسب المهام الموكلة إليها، وترى في التدخل العسكري الأمريكي أنه يزيد من توسيع رقعة الصراع الأهلي بين الفرقاء الليبيين، وتصبح الحرب الأهلية هدفًا في حد ذاتها، تغذيها الأطراف الداخلية من القبائل والقوى السياسية المتنافرة، والقوى الدولية الكبرى، التي تبحث عن تحقيق مصالحها المتضاربة على حساب مصالح الشعب الليبي، الأمر الذي يمكن أن يستغله تنظيم «داعش» المتقهقر في سرت، خصوصًا إذا انهارت حكومة الوفاق الوطني، لكي يُعِيدَ ترْتِيبَ أوضاعه التنظيمية والعسكرية، ويُعِيدَ أيضًا انتشاره من جديد في الداخل الليبي، ويَجِدَ له ملاذًا آمنًا في الصحراء الجنوبية، ويُوَاصِلَ شن هجمات بشكل غير منتظم، في حين قد يعود بعض المقاتلين الأجانب في صفوفه إلى بلدانهم الأصلية لِشَنِّ المزيد من الهجمات الإرهابية، وبالمقابل ستواصل الجماعات الإرهابية الأخرى، بما فيها تلك المرتبطة بتنظيم القاعدة، طرح تحدّيات أمنية خاصة.من هنا تشدد الدول المغاربية على ضرورة أن يخدم الانتصار العسكري في سرت على تنظيم «داعش» المشروع الوطني الموحد لجميع مكونات المجتمع الليبي، من أجل محاربة التنظيمات الإرهابية كتنظيمات «داعش»، وتنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» الذي يقوده الجزائري عبدالمالك دروكدال، وأيضا «جماعة المرابطون» لزعيمها الجزائري مختار بلمختار، وتنظيم «أنصار الشريعة» بفرعيه التونسي والليبي، وغيرهم من التنظيمات والأحزاب الأخرى التي تمتلك أذرعًا عسكرية تستخدمها لمحاربة إعادة بناء الدولة الليبية. فتنظيم «داعش» لن تثنيه هزيمته العسكرية في سرت، فهي ليست الهزيمة الإقليمية الأولى التي يتكبدها.فقد هزم تنظيم «داعش» في مدينة درنة في يونيو 2015، وانسحب منها، واستولى على مدينة سرت في نفس صيف تلك السنة، ما يظهر أن هذا التنظيم الإرهابي قابل للتكيف بشكل تام، ولن تسلبه الخسارة القدرة على شن هجمات انتحارية عن طريق مجموعات صغيرة، كالتي ميّزت نشأته الأولى في ليبيا، وأن يوجّه نسبة أكبر من نشاطه جنوبا، ويستغل موارد النفط والمياه المهمة، ويفرض سيطرته على عمليات التنقيب عن الذهب، وتهريب البشر والأسلحة والمخدرات بشكل واسع، لاسيَّما وأن الجنوب الليبي والساحل الصحراوي، تعتبر منطقة رخوة، وشهدت سوابق للمنظمات المسلحة والإرهابية، حيث نشطت بها الحركة الوطنية لتحرير أزواد، وهي مجموعة انفصالية من الطوارق، وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وجماعة أنصار الدين، والمرابطون.