07 أكتوبر 2025

تسجيل

"النموذج الروسي".. من "غروزني" إلى ثعالب الليل

16 سبتمبر 2013

أخطر القادة هم أولئك الذين تصيبهم لوثة الشوفينية القومية، وتستبد بهم شهوة إعادة بناء الأمجاد الغابرة واستحضار الماضي باعثين في شعوبهم مشاعر الضحية والفقدان ومستفزين فيهم غرائز الانتقام من الآخرين. هناك في تاريخ البشر والسياسة قومية حميدة وهناك قومية مدمرة. الأولى تعكس الانتماء الطبيعي والعفوي للوطن والثقافة والهوية. من دون مبالغة وانجرار باتجاه الإدعاء بالتفوق الإثني والثقافي على الآخرين ومن دون احتقار القوميات الأخرى، القومية الحميدة تُطلق طاقات الناس الإيجابية لخدمة جماعتهم ووطنهم والاعتزاز به والتنافس مع "الأوطان" الأخرى عن طريق الإنجازات. وليس عن طريق التباهي بـ "نقاء الدم" أو أمجاد الماضي أو عظمة التاريخ الذي أغلب مراحله تكون متخيلة أو مركبة والخيال الجامح فيها أكثر من الحقائق. النوع الثاني من القومية" القومية المدمرة" هي تلك الشوفينية التي تختلط مع العنصرية وتنظر للذات القومية بكونها الأعلى والأفضل تراتبية. وترى الآخرين وقومياتهم وأوطانهم يحتلون دوما مراتب أدنى على السلم القومي وسلم "الأجناس والإثنيات". كثير من الحروب الدموية التي دفعت فيها البشرية ملايين الضحايا نشبت عن جنون القوميات الإثنية أو الدينية. حيث يأتي قائد ما مهووس بجنون الأفضلية وسيكولوجيا الضحية، ويريد أن يصوب التاريخ ويضع المستقبل "على الطريق الصحيح" رغما عن كل الحقائق الموضوعية الأخرى. كل ما يقف في وجه مشروع إعادة المجد الغابر وفي وجه تصويب التاريخ وتثبيت بوصلة المستقبل يجب أن يُحارب، ويُزاح، ويُستأصل. من قلب الشرق الصيني والياباني. إلى قلب الغرب الأوروبي مرورا بكل جهات الأرض. هناك نماذج وسيرورات قومية من المفترض أن تكون قد وفرت أمثلة وتجارب تردع عالمنا من التورط في مساراتها. في أوروبا مازالت تجربة القومية النازية والرعب والموت الذي جلبته على القارة طازجا. لأن تلك القومية رأت في الجنس الآري العنصر النقي الأعلى والذي يجب بالبداهة أن يحكم أوروبا والعالم كله من ورائها. كل من يعتبر عائقا وحملا ثقيلا يحول دون المضي في طريق ذلك "المشروع الطبيعي". أو حتى يبطئ من انطلاقه فإن مصيره الاستئصال والموت. القوميات الشرسة لا تدجن بسهولة فضلا عن أن تموت، رأى العالم كيف انبعثت القومية الصربية من تحت ركام عقود طويلة من القيد اليوغسلافي، وانقضت على من جاورها والحلم الذي يقودها بكل عماء هو صربيا الكبرى. صربيا العظيمة والمتسيدة. كما كانت مُتصورة في عقول قادة مهووسيين مثل سلوبودان ميلوسيفتش ورادوفان كارديتش. كانت النتيجة مجازر وإبادة عرقية في قلب أوروبا مرة أخرى. في البوسنة وكرواتيا وكوسوفو. الليبرالية والديمقراطية هي الآليات التي اقتحمت فضاء القوميات الشرسة وعملت على تدجينها. الليبرالية الديمقراطية تتجاوز التراتبيات الإثنية والقومية الحادة. وتعلي من قيمة الإنجاز كمعيار تفاضل. وتكرس مبادئ المساواة بين البشر على أساس إنسانيتهم. هناك بالطبع اختلالات كبيرة في التطبيق. خاصة عندما نلاحظ خفوت أو عدم انعكاس تلك المبادئ في السياسات الخارجية. لكن الشيء المهم والأساس في الليبرالية الديمقراطية أنها توفر معايير إنسانية وعالمية للاحتكام إليها. غير مرتكزة على أي أسس قومية. روسيا بوتن اليوم هي روسيا المهجوسة بإعادة بعث القومية الروسية وأمجادها الغابرة. خطاب بوتن وسياساته الداخلية وبرامجه الانتخابية التي طرحها أثناء ترشحه للرئاسة تنبعث منها روائح الشوفينية. ولتحقيق أحلام "روسيا فوق الجميع" فإن ذلك يعني تبني سلسلة من السياسات الداخلية والخارجية التي تقوم القسر والقوة والإزاحة الإجبارية. داخلياً تبنى بوتن مفهوم "الديمقراطية السيادية" وهو مفهوم فضفاض وغامض، المقصود المُعلن منه هو عدم السماح لأي أطراف أجنبية في التدخل في "سيادة" روسيا من خلال التدخل في ديمقراطيتها وأحزابها وجمعيات المجتمع المدني فيها. التطبيق المباشر لـ "الديمقراطية السيادية" كان تشديد القبضة البوليسية على الحريات العامة، والجمعيات، والإعلام. وقولبة كل ما هو موجود في المجتمع والسياسة والثقافة وفق رؤية بوتن. وكأحد الأمثلة المُدهشة الآن ليحاول القارئ أن يتذكر إن سمع رأياً حول الشأن السوري من أي سياسي أو صحفي أو مثقف أو ناشط أو أكاديمي روسي يخالف الرأي الرسمي؟ في أي بلد آخر على الجهة الأخرى من "الديمقراطية السيادية". وبدءا من الولايات المتحدة وحتى تركيا ومرورا بكل البلدان الأوروبية هناك طيف واسع من الآراء يشمل السياسيين والإعلاميين والكتاب والأكاديميين. في السياسة الخارجية ينطلق بوتن من شوفينية روسية إزاء الجوار الإقليمي تذكر بسياسة هتلر. فبوتن يرى في الجمهوريات الآسيوية "الحيز الحيوي" لروسيا. والذي يفرض على موسكو أن يبقي تلك الجمهوريات تحت النفوذ الروسي وتابعة له. سواء أكان ذلك تحت ظل الاتحاد السوفيتي وعبر الشيوعية الأممية. أو عن طريق مباشر ومن دون التخفي وراء أي مشروعات أيديولوجية. ولم يترك بوتن أي مجال لأي متشكك في سياسته إزاء الجوار الإقليمي. وهي السياسة التي قامت على القسر والبطش والتركيع. من الشيشان وتسوية عاصمتها غروزني بالأرض. إلى جورجيا وتركيعها وتنصيب نظام موال لموسكو فيها. بوتن الذي يتشدق بضرورة التزام الدول الكبرى بالقانون الدولي عند طرح أفكار التدخل الخارجي في سوريا. داس على ذلك القانون وتبختر عليه جيئة وذهابا في الجوار الإقليمي. ثم لفظه بعيداً. قيصر موسكو الذي يريد أن يدخل التاريخ بكونه من أعاد بعث المجد الروسي بعد الإذلال الذي تعرضت له روسيا إثر انهيار الإمبراطورية السوفيتية. وبكونه من أعاد توحيد الأراضي السلافية. ولأنه مهجووس بشوفينية روسية عابرة للحدود وخطيرة فإنه لا يخجل من رعاية ما يُعرف بـ "نادي ثعالب الليل" وهم مجموعات من راكبي الدراجات النارية. والمعروفون بشعور رؤوسهم ولحاهم الكثة. والأوشام والسلاسل التي تملأ سواعدهم وصدورهم. ويعتبرون من أشد مؤيدي بوتن ونظرته القومية الشوفينية. وهم يطوفون في رحلات طويلة سواء في روسيا أو البلدان المجاورة لها. وأحيانا تستهوي بوتن أن يرافقهم في بعض جولاتهم. وفي حادثة مشهودة تناقلتها وسائل الإعلام العام الماضي توقف بوتن مع "ثعالب الليل" في إحدى جولاتهم في أوكرانيا خلال زيارة رسمية له للبلاد وتجول معهم وأبقى الرئيس الأوكراني منتظرا له أكثر من أربع ساعات. وفي نفس تلك الزيارة نقلت أقوال وعهود أخذها "ثعالب الليل" على أنفسهم أمام بوتن بأنهم سيبقون إلى جانبه كي يساعدوه في توحيد الأراضي السلافية التي قسمها الأعداء! الذين يصفقون لبوتن وروسيا على "القوة" و"العظمة" التي يبديها في السياسة الدولية عليهم أن يراجعوا أنفسهم. روسيا بلد عظيم وتاريخها غني ولا تحتاج إلى سياسة شوفينية كي تثبت نفسها. القومية الشوفينية تقضي على الذات قبل أن تقضي على الآخرين. هذا هو درس التاريخ الذي لا يمل من تعليمنا.