14 سبتمبر 2025
تسجيلهل يمكن أن تكون هناك مُبالغةٌ في نقدِ واقعنا، بحيث تفقد عملية النقد معناها الحقيقي، وتتحول إلى هدفٍ بحد ذاتها، وفق مقولة النقد لمجرد النقد؟ هذا ممكنٌ دوماً على مستوى بعض الأفراد الذين يُمارسون تلك العملية، والأسباب المُحتملة وراءه عديدة، تتراوحُ من غَلَبة التفكير السلبي على أصحابها شخصياً، إلى افتقادهم القدرة العِلمية والفكرية على تجاوز النقد إلى تقديم ملامح الإجابات والحلول. ثمة مُشكلة في الظاهرة السابقة. لكن المشكلة الأكبر، بكثير، تكمنُ في التعامل مع عمليات النقد، كآليةٍ للمراجعات والتصحيح في المجتمعات، بناءً على وجود تلك الظاهرة. بمعنى، أن يتم تسليط أشعة الحرمان على ممارسة النقد بدعوى أننا "شبعنا من النقد"، وأننا "نعرف أن في واقعنا سيئات كثيرة"، وأنه "كفى تنظيراً وأعطونا حلولاً"، وما إلى ذلك من مقولات. فهذا الطرحُ يَغفل عن حقيقةٍ تقوم عليها المجتمعات الأكثر تقدماً في هذا العصر، حيث يُعتبر النقد عمليةً مستمرةً لا تقفُ عند حدٍ أو زمن، ولا تنحصر في مسألة، ولا تقتصر على جهةٍ دون أخرى. بل توجد شرائح كاملة من العلماء والباحثين تنحصر صِفتُهُم في أنهم (نُقاد)، ونَقدهم يمتد من مجالات الفن والأدب إلى السياسة والاقتصاد، مروراً بكل مجالات الحياة البشرية الأخرى. والأغلب أن تكون هذه صِفتهم المِهَنية، بمعنى أن (النقد) هو حِرفتُهم في الحياة. ولا يخطرُ في بال أحد أن يشكوَ من (إنتاجهم) ويتبرﱠمَ من استمرار ممارستهم النقدية، فضلاً عن أن يستهين بما يقومون به، ويُصنفهُ بأنه عملُ من لاعملَ له. أكثر من هذا، هناك مدرسةٌ كاملة في عالم الأكاديميا هي (المدرسة النقدية)، وهي تُغطي أيضاً كل فعاليات الواقع الذي تعيشه الدول والمجتمعات، وتأثيرُها لايقف عند حدود معاهد البحث والتعليم، وإنما يتجاوزُها ليدخل إلى صُلب الواقع العملي، ويُلامس عناصر الحياة اليومية للمجتمعات بآليات التحليل والتفكيك والشك والمُساءَلة، بحثاً عن أسباب المشكلات، وتقصياً لعوامل الخلل والخطأ، واستشرافاً لمداخل الحلول. والمفارقة، التي يجب أن ينتبه إليها أهلُ المقولات المذكورة أعلاه، أن يحصلَ هذا في مجتمعات مستقرة ومتطورة لديها الكثير من الإجابات على أسئلتها، ومن الحلول لمشكلاتها، دون أن يدفع ذلك أهلَها إلى اختزال الموضوع في جُمل تُعبِّر عن (الاكتفاء من عمليات النقد)، وتَحملُ في طياتها ادعاء (معرفة أن في واقعنا مُشكلات). الواضحُ أن هذه الطريقة في التفكير، بحدﱢ ذاتها، مظهرٌ رئيس من مظاهر مشكلتنا الثقافية في مجتمعات العرب والمسلمين، وهي المُشكلة التي تُعتبر أصل مشكلاتنا الأخرى، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها. فَمع تَحكُّم عقلية الاختزال والتعميم والاستعجال في الثقافة السائدة، يُعتقدُ أن بضعةُ مقالات أو كتب أو دراسات كافيةً لتغطية المساحات الواسعة المهترئة في طرق التفكير والعمل والحياة.. وبإدراك بعض عناوين المشكلات والإقرار ببعض مظاهرها، يسود الشعور بأننا، حقاً، نعرف سلبياتنا وأخطاءنا. وفي ظل الاعتقاد بكفاية النقد الموجود وقدرته على كشف جذور السلبيات الاجتماعية، يُصبح الاستعجالُ في طلب الحلول والإجابات طبيعياً، وكذلك الاستمرارُ في اعتبار النقد (ترفاً) أو (تضييع وقت) لاطائل من ورائه. ما من شكٍ في الحاجة إلى تقديم حلول للمشكلات وطرح إجابات على أسئلة الواقع، لكن هذا ليس مهمة (الناقد) بالضرورة. فهذا الأخير يُشير إلى مكمن الخلل في ظاهرةٍ معينة، ويُحاول تبيان جذورها وأسبابها. وهو، بذلك، يعطي إشارات تتعلق بمداخل تصحيح الخلل، ويكون دورُ أصحاب العلاقة الانتباهُ إلى تلك الإشارات ودراستها، وصولاً إلى صياغةٍ تفصيليةٍ للحلول هم الأقدرُ على تقديمها. هذه، إذاً، عمليةُ توزيع أدوار فيما يتعلق بالوظائف الثقافية التي تهدف للإصلاح الاجتماعي والسياسي، وحين يُنظرُ إليها بتلك الطريقة ترتفع درجة الفعالية في أداء الوظائف المختلفة جميعاً، ويمكن لعملية التطوير في المجتمعات أن تبدأ بشكلٍ حقيقي. قد يكتب أحدهم، مثلاً، أكثرَ من مرة، في نقد الطريقة السائدة في إصدار الفتاوى، ويُشير إلى ضرورة استصحاب تخصصات العلوم الاجتماعية في فهم الظواهر والتعامل معها، وعدم الاكتفاء بـ (العلم الشرعي) في معالجة الواقع، وإلى خطورة (الاعتماد) المُبالغ فيه على أقوال السابقين، وهو ما يُرسخ معنى (الآبائية) التي يرفضها القرآن نفسه. هذا نقدٌ يحمل في طياته إشارات إلى آليات تطوير منهجية الفتوى وطريقتها، لكن الأمر يُصبح، بعدَها، مسؤوليةَ أصحاب العلاقة المباشَرين ممن يتصدون لعملية الفتوى. وحين يتكرر الأمر مرةً تلو أخرى بنفس الطريقة، فهذا يُعلَّلُ بواحدٍ من تفسيرين: ألا تكون هناك قناعةٌ، أصلاً، بوجود مشكلة، أو أن الشعور بها موجودٌ، لكن التغيير صعب لأسباب عديدة، ليس هذا مقامَ البحث فيها، والأرجحُ أنها باتت معروفة. وفي الحالتين، يكون النقد قد أدﱠى دوره، ويبقى الأمر مُعلقاً بإرادة أصحاب العلاقة وقدرتهم على رؤية المشكلة وعلى حلها. المفارقةُ أن تكون لدى بعض أصحاب المقولات المذكورة أعلاه قدرةٌ على التأثير في أهل العلاقة المباشرة بإصلاح الظاهرة، وأن يقتصر دورهم، رغم ذلك، في لَومِ النقد والنقاد، بدلاً من المبادرة الإيجابية لدى من يُمكنُ له القيام بالإصلاح عملياً. ورغم أن الحالة التي نتحدث عنها لاتختص بشريحةٍ مُحددة في المجتمعات العربية والإسلامية، إلا أنها بارزةٌ بوضوح لدى (الإسلاميين) أكثر من غيرهم، وخاصةً منهم المُنتظمين في مؤسسات أو تجمعات سياسية أو دَعَوية، أو مَن لهم علاقة بتلك الهياكل وأفرادها. والمشكلة هنا، كما ذكرنا سابقاً، أن كثيراً من هؤلاء يقرؤون "كل نقدٍ على أنه هجومٌ وطعن، ويَرون في كل محاولة للإشارة إلى أخطائهم تَجنّياً وتشكيكاً، ويُرجِعون، بسرعةٍ وحسم، كل دعوةٍ للمراجعة إلى أحد سببين: انحرافُ صاحب الدعوة أو مشاركتهُ في مؤامرةٍ ما عليهم.. ومن النادر أن يظهر في ردود أفعالهم (حُسنُ الظن)، مع أن هذا يُعتبرُ من المعاني التي يتغنونَ بها في أدبياتهم.. وأكثرُ نُدرةً أن تجدَ القابلية عندهم للحوار مع الأفكار، ومحاولةَ قراءتها بدرجةٍ من الحياد، والتفكيرَ في دلالتها بشيءٍ من الموضوعية. أما أن تسمع عبارةً فيها اعترافٌ واضحٌ وصريحٌ بالخطأ، فهذا أمرٌ بعيد الاحتمال إجمالاً". مرةً أخرى، ثمة أفرادٌ يمارسون النقد لمجرد النقد، تغلبُ عليهم السلبية في رؤية الواقع، ويصعبُ عليهم إبصارُ كمون الإيجابيات فيه. والحالُ مع هؤلاء، أياً كانوا، أن يُتركُ إنتاجهم ليحكم التاريخ فيه. أما الخطورة فتكمنُ في التعامل مع عملية النقد، بشكلها المنهجي، بناءً على وجود هؤلاء، وطبيعة عطائهم. والأصلُ ألا تتوقف تلك العملية، خاصةً في مجتمعات هي أحوج ما تكون إلى استمرارها فيها، كما هو الحال مع مجتمعات العرب والمسلمين.