12 سبتمبر 2025

تسجيل

الصورة وبناء الواقع وصناعة الرأي العام (1)

16 أغسطس 2014

يتساءل الكثيرون عن مهنية وموضوعية مخرجات وسائل الإعلام، وإلى أي مدى تعكس هذه الرسائل الواقع كما هو أم أنها تشكله وتبنيه و"تفبركه" وفق أطر ومرجعيات واتفاقيات محددة. ففي بعض الأحيان يقدم الحدث من زوايا مختلفة وبرؤى متناقضة وكأن الأمر يتعلق بحدثين مختلفين تماما.. تعامل وسائل الإعلام مع الحروب يثير عدة تساؤلات وملاحظات من أهمها أن الإعلام بصفة عامة والصورة بصفة خاصة أصبحا جزءا لا يتجزأ من الحرب نفسها. ما قدمته وسائل الإعلام أثناء الحرب على غزة لا يخرج عن هذه القاعدة، أي إعلام يتلقاه المشاهد والقارئ والمستمع حول ما يجري في غزة وسوريا والعراق وبؤر التوتر في العالم هذه الأيام؟ وهل من موضوعية وحرية في نقل أحداث ووقائع ما يجري في أرض الميدان وهل من استقلالية في معالجة القضايا والمسائل التي تحيط بالأزمات والصراعات. ففي هذه الأيام يجد الجمهور نفسه أمام سيل من الأخبار والمعلومات محشوة بالتناقضات وتضارب في الأخبار والبيانات والإحصائيات والمعطيات ووجهات النظر.. فالحرب النفسية تفرض نفسها على منطق الموضوعية والحياد ويصبح كل طرف متورط أو غير متورط في الحرب يعمل جاهدا لكشف ما يخدمه ويخدم مصالحه وأهدافه وقوته وتفوقه من أجل رفع معنويات الجيش والشعب وكل من يتعاطف معه وضرب معنويات الخصم. من جهة أخرى، نلاحظ أن الطرف الآخر في الحرب يخفي خسائره وضحاياه ويركز على النجاح والنتائج التي حققها.. بطبيعة الحال ما دام أن الحرب خداع فإن الغاية تبرر الوسيلة للنيل من العدو ولو تطلب ذلك الكذب وممارسة الحرب النفسية والدعاية والتضليل والتعتيم ومختلف سبل والتلاعب. حسب إدوارد سعيد فإن التشويه والتضليل والانحياز في تغطية العرب من قبل وسائل الإعلام الغربية يعود بالدرجة الأولى إلى الصراع الحضاري والثقافي بين الغرب والإسلام. وقد ظهر هذا الصراع جليا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانهيار القطبية الثنائية حيث ظهر النظام الدولي الجديد وتحديه للثقافات المختلفة في العالم وخاصة الإسلام. وجاء مصطلح "الإسلاموفوبيا" للتعبير عن الهستيريا التي أصيب بها الغرب ضد الإسلام بعد انهيار الشيوعية، حيث أصبح هذا الأخير يتصدر قائمة أعداء أوروبا وأمريكا.. وأكدت دراسات تحليل المضمون أن كتب التاريخ المدرسية وكتب الاجتماعيات في المدارس الأمريكية أسهمت هي بدورها في إيجاد فكر باطني معاد لكل ما هو إسلام وعرب، وكانت النتيجة أن الأمريكي يتعرض منذ نعومة أظافره إلى جملة من الصور النمطية ومن الأفكار المضللة والمزيفة ضد كل ما هو عربي ومسلم. في ظل هذا التزييف والتشويه والتغطية السلبية للعرب من قبل الإعلام الغربي نلاحظ أزمة في الإعلام العربي في عملية تسويق صورة إيجابية وصورة تصّحح هذا الخلل. فالإعلام العربي لم يحدد إستراتيجية يستطيع من خلالها تقويم هذا الخطأ وتقديم البديل أو البدائل للرأي العام الغربي والدولي.. فالصناعات الثقافية العربية مازالت ضعيفة جدا لم ترق إلى العالمية ولم تعرف كيف توّظف اللغات العالمية للوصول إلى الآخرين.. والإعلام العربي كما لا يخفى على أحد يتخبط في دوامة من المشاكل والضغوط قد لا تؤهله للقيام بدور فعّال على الصعيد الدولي، أضف إلى ذلك أن الأنظمة العربية ركّزت جهودها في استخدام الإعلام كوسيلة للسلطة وتثبيت الشرعية والتحكم والمراقبة، ولم تول أي اهتمام للبعد الخارجي أو الدولي الذي من المفروض أن يكون من المهام الإستراتيجية للنظام الإعلامي في كل دولة عربية. شهدت الساحة العربية والعالمية خلال السنوات القليلة الماضية أحداثا مهمة تفاعلت معها وسائل الإعلام من مختلف أنحاء العالم بطرق مختلفة وفي بعض الأحيان يتبادر للقارئ أو المشاهد أن الحدث مختلف رغم أنه نفسه، لكن عملية النظر إلى الحدث ومعالجته وتحليله وتقديمه للجمهور هي التي اختلفت، وبذلك يكاد الحدث نفسه يختلف رغم أنه واحد. وسائل الإعلام في القرن الحادي والعشرين أصبحت "تفبرك" الواقع أكثر مما تقدمه للجمهور كما هو. وفي الصناعة الإعلامية الكلام عن الموضوعية والبراءة وتقديم الأشياء والأحداث والحروب والأزمات كما هي يعتبر ضرب من الخيال.. وسائل الإعلام وبفضل المكانة الإستراتيجية التي تحتلها في المجتمع وبفضل قوتها في تشكيل الرأي العام، وفي إعلام وإخبار الجماهير بما يحدث ويجري من حولهم وفي العالم بأسره أصبحت مؤسسات تستقطب اهتمام القوى الفاعلة – السياسية، الاقتصادية، الدينية، جماعات الضغط، المجتمع المدني- في المجتمع سواء محليا أو دوليا. فوسائل الإعلام في أي مجتمع لا يحركها المال فحسب بل هناك قوى أخرى تتنافس فيما بينها للاستحواذ والسيطرة عليها من أجل إعلاء كلمتها ووجهة نظرها وإيصالها للرأي العام، لأن في نهاية المطاف السلطة الحقيقة في أي مجتمع يؤمن بالديمقراطية والشفافية هي سلطة الشعب أي الرأي العام. والقوى الإستراتيجية التي تشكل الرأي العام في أي مجتمع هي وسائل الإعلام، حيث أكدت معظم الدراسات أن وسائل الإعلام هي التي تحدد لنا ماذا نقرأ وماذا نشاهد وكيف نرى ونقرأ البيئة التي تحيط بنا والمجتمع من حولنا.. حسب ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، أصبحت الثقافة في القرن العشرين صناعة مثلها مثل الصناعات الأخرى تخضع لقوانين العرض والطلب وبذلك قوانين السوق.. فالمنتجات الثقافية أصبحت منتجات معلبة تُصنع وفق معايير الإنتاج المتسلسل ووفق أنماط معينة تؤدي في النهاية إلى أحادية الأسلوب والمحتوى.. وبذلك اٌختصرت الثقافة في التسلية والاستهلاك العابر- الذي يعمر لفترة زمنية محدودة ثم يزول للأبد.. فالصناعات الثقافية أصبحت مرادفة للتلاعب بأذواق الأفراد وحسهم، كما أصبحت نموذجا للتعليب والتنميط والتسطيح وإفراغ الثقافة من محتواها الحقيقي ومن بعدها الجمالي والإنساني.. تلعب وسائل الإعلام دورا رئيسيا في رؤيتنا وتصورنا للآخرين وهذا وفق ما تقدمه لنا من صور وأفكار عنهم، وما يقال عن الأفراد يقال عن الدول والمجتمعات.. فما نشاهده في الأفلام وما نتصفحه في الجرائد و المجلات وما نشاهده في التليفزيون وما نسمعه في الراديو عن المجتمعات الأخرى وعن شعوبها يحدد إلى حد كبير موقفنا من هذه الثقافات ومن هذه الدول وشعوبها، وهذا نظرا لاعتبارات عديدة من أهمها أن معظمنا يعتمد على وسائل الإعلام لتكوين مخزون معرفي معين وصور ذهنية ورأي وموقف.. وفي الكثير من الأحيان لا يستطيع الفرد أن يصمد أمام ما يقدم له وإنما في غالب الأحيان يقف مستسلما ولا يقاوم وإنما يتبنى ويتقبل خاصة في الأمور التي تخرج عن اختصاصه ومعارفه.