18 سبتمبر 2025
تسجيلاجتمع نسوة من نساء الفئة الأرستقراطية الناعمة المترفة عند زوجة عزيز مصر، بعد أن انتشر في المدينة خبر مراودتها لفتاها، فآلمها ذلك. وحتى تدرك تلك النسوة سبب هيامها بيوسف – عليه السلام - قامت بمكيدة نسائية غاية في الدهاء والدقة، وذلك بدعوة أولئك النسوة اللائي تناولن خبرها مع فتاها، إلى مجلسها، الذي تم تحضيره بكل مستلزمات جلسة نسائية راقية، فيها أنواع من المشروبات وكذلك بعض الأطعمة التي قد تحتاج لاستخدام السكاكين، في مشهد يدل على رقي الحضارة التي كانوا عليها، بدليل استخدام السكاكين في مأكلهم. بعد اكتمال الحضور، وفي لحظة معينة تطلب زوجة العزيز من فتاها الخروج عليهن لأداء خدمة الضيافة أو نحوها.. فيخرج عليهن يوسف – عليه السلام - لتنخلع قلوبهن من شدة جماله وتقسيمات وجهه وبهائه، ما جعل النسوة يجرحن أيديهن بالسكاكين دون شعـور منهن بألم القطع أو الجرح للحظات معدودة وصفها القرآن في قوله تعالى ( فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشراً) لتستلم زوجة العزيز زمام الأمر من فورها، وتبين لهن سبب هيامها بهذا الشاب، الذي جعل الواحدة منهن تنقطع عن واقعها للحظات معدودة، إلى الدرجة التي لم تشعر بألم السكين وهو يجرح يدها ( قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ) كأن لسان حالها يقول لهن: أنتن في مشهد خاطف سريع، شغفتن به، فما بالي أنا وهو معي منذ سنين؟. فأي مشهد هذا الذي كن فيه تلك النسوة ؟ وأي شعور طاف وجال بنفوسهن في تلكم اللحظات ؟ لا شك أنه مشهد كان بالغ الأثر في نفوسهن. الفتنة المزدوجة إن مشهد المجلس، مثلما كان وقعه شديداً على نفوس النسوة، فقد كان أشد وقعاً على يوسف – عليه السلام – من ناحية أن ما حدث هناك جعل الفتنة أشد وأكثر عنفاً. إذ صارت كل واحدة منهن تتمناه ساعتها وترغب فيه وهن من علية القوم، اللائي لا يتم رفض طلب لهن في العادة. لقد كانت الفتنة قبل أيام معدودة مع امرأة واحدة، فكيف وقد صارت الآن مع عدد أكبر، بل بلغت الفتنة عمقاً أكثر وأخذت بعداً جديداً وصل بالأمر إلى التهديد العلني في ذاك المجلس الأنثوي الأرستقراطي، الذي يبدو كما في ظاهر الآيات الواصفة له، أنه لم تكن هناك حواجز أخلاقية في ذاك المجلس أو ذاك المجتمع، أبسطها الحياء المعروف عن الإناث بشكل عام، بدليل ما جاء على لسان زوجة العزيز أمام النسوة وفي عقر دارها ( ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين). نعم، دون أدنى حياء، تبوح زوجة العزيز ما دار بينها وبين فتاها في الغرف المغلقة بالقصر، وتكشف ما كان مستوراً وتعلنها أمام ذاك الجمع من النسوة، بل لم تكتف بذلك الكشف والبوح، لتعلن أنها ما زالت ترغب فيه، وأن عليه تنفيذ ما تأمره، وإن عصيانه سيأتي بعواقب غير سارة له. وهذا ما حدث ليوسف نهاية الأمر. السجن أحب إلي رأى الكريم بن الكريم عليهما السلام، أن الفتنة الآن صارت مزدوجة بانضمام النسوة إلى زوجة العزيز. وعلى رغم أنه استعصم في المرة الأولى، إلا أنه الآن قد يضعف أمام المشهد الذي يعيشه أمام نسوة فاتنات من علية القوم، بعدما صرحت زوجة العزيز أمامهن بأنها لم تيأس منه، وستأمره بفعل ما تريد وترغب، وليس من شك أنهن جميعاً رغبن فيه وتمنت كل واحدة منهن أن تنفرد به - عليه السلام – في مشهد أكاد أتصور صعوبته وعنفه على شاب عفيف طاهر مثل يوسف، قامت حياته على الحياء والخلق الرفيع، وفي جو لا يمكن أن ينجو منه أي شاب في أي زمان أو مكان بالسهولة التي يمكن تصورها، إلا ما رحم ربي وقليل ما هم. أمام تلك الفتنة المزدوجة، لم يجد إلا الله يلجأ إليه كي يحفظه، قبل أن تضعف قواه أمام الإغراءات التي وجدها في مجلس النسوة، ووجد في تلك اللحظات الحرجة وبعد أن التقط كلمة السجن الصادرة عن زوجة العزيز، أن السجن أحب إليه من دعواتهن وإن كان على حساب حريته وحياته وصحته. فدعا ربه ( قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصبُ إليهن وأكن من الجاهلين ). يسأل ربه أن يصرف كيد النسوة عنه وعلى رأس ذلك، كيد زوجة العزيز. فصرفه الله عن تلك الأجواء بصورة من الصور بقدرته سبحانه، وليس المهم هاهنا معرفة التفاصيل والكيفية، لكن المهم أنه انتهى به المقام إلى السجن. نعم، هذا ما حدث بالفعل. إذ بعد أن وصل الأمر إلى العزيز نفسه، ومن بعد أن سمع كل ما دار من ذي قبل في بيته، إلا أن يسجنه - وهو على قناعة تامة ببراءة يوسف - حفاظاً على سمعة بيته. فإن مثل هذه البيوت في تلك المجتمعات، لا يجب أن تسوء سمعتها بأي حال من الأحوال حتى وإن كان ذلك على حساب أبرياء يتم التضحية بهم بصورة وأخرى. فهكذا حال المجتمعات حين يسود الظلم، حيث تنقلب الموازين وتختل إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا. وفي مشاهد سورة يوسف الكثير الكثير من العبر والدروس التي يمكن استخلاصها عبر مزيد تأمل وتدبر وتفاكر وتدارس. لب الحديث أن قصص الأنبياء ما يذكرها القرآن تسلية وترفيهاً لمن يقرأه، بل هي عبرة وعظة إلى يوم الدين.. ولك أن تنظر إلى الآية الأخيرة في سورة يوسف المليئة بالقصص والمشاهد الإنسانية، وتتأمل الحكمة في السـر الذي جعل الله هذه الآية خاتمة للسورة في قوله تعالى ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ). فاللهم ارزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى، إنك سميع عليم مجيب الدعوات. [email protected]