18 سبتمبر 2025
تسجيلتعد مسألة تشكيل حكومة الوحدة الوطنية وإقرار برنامجها من أهم الموضوعات التي تتطلب حلًا واقعيًا، منذ أن طرح رئيس الجمهورية التونسية الباجي قائد السبسي مبادرته الشهيرة قبل شهر رمضان على بساط البحث والمفاوضات مع مختلف الأحزاب والمنظمات الوطنية (الأعراف- اتحاد الشغل...). فهي محل اهتمام الأوساط الشعبية والسياسية على السواء، نظرًا إلى التحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي تواجهها البلاد، ليس من باب أهمية الإعلان عن التوافقات حول حكومة الوحدة الوطنية للمساهمة في إخراج البلاد من أزمتها البنيوية العميقة الراهنة فحسب، وإنما أيضًا من أجل رسم إستراتيجية وطنية وخيارات جديدة للمستقبل. ووسْطَ كلِّ هذه النقاشات الماتونية في قصر قرطاج، أصبح الشعبُ التونسي أكثرَ وعيًا بضرورة إيجاد حلولٍ عاجلة للأَزمات المتفاقمة، لاسيما حل مشكلة البطالة، وإعادة ترتيب المؤسَّسات العملاقة، وإصلاح الأجهزة المصرفيَّة والبنكيَّة، والتوصُّل لأُطرٍ صحيحة لمعالجة مظاهر الرِّشوة، وغسيل الأموال، والضَّرب على أيدي المفسدين لتنقية الأسواق مِن الغلاء، خاصَّةً مع تحرُّك المنظَّمات الحكومية وجهاتِ التَّنمية والتعاون لضبط آليات العرْض والطلب، ووضع أطر تنظيميَّة للشَّركات متعددة الجنسيات، ومنع صُوَر التلاعُب بقوتِ وأرزاقِ البُسطاء مِن عامَّة النَّاس، والاستفادة الإيجابيةِ من ثورة المعلومات الرَّقميَّة، وتكنولوجيا الاتِّصالات والإعلام، لخدمة مقومات التنمية الشَّعبيَّة.لقد أثبت التاريخ مرارًا وتكرارًا أن حكومة الوحدة الوطنية الجيدة ليست من قبيل الترف، بل هي ضرورة وطنية، لأنه من دون إعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية في تونس، يتعذر مواجهة التحديات التي تعيشها البلاد، في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والإرهابية. فتونس تعيش اليوم في ظل دولة ضعيفة وفاقدة تماما للهيبة، نظرًا لأن أول رئيس للجمهورية الذي انتخبه الشعب التونسي لكي يقود سفينة الانتقال الديمقراطي نحو بر الأمان، بلغ من العمر عتيًا (90سنة)، وفي مثل هذه السن المتقدم (أطال عمر الرئيس الباجي) من الصعب على أي إنسان أن يقود دولة، ويعيد بناء مؤسساتها في ظل ديمقراطية ناشئة تواجه خطر الإرهاب المستوطن داخليا، والعابر للحدود، وأزمات اقتصادية واجتماعية خانقة، فللعمر أحكامه.والحال هذه، هناك أزمة حكم في تونس اليوم، لاسيما في قمة هرم الدولة، فالرئيس الباجي أظهر عجزًا واضحًا في إعادة بناء الدولة الوطنية، وقيادة الجمهورية الثانية، إذ تجاوز الدستور الذي ينص على أن شكل الحكم برلماني أو أقرب منه، بينما حوّل الرئيس النظام رئاسيا، حين جعل من قصر قرطاج المرجعية الأولى. وفضلًا عن ذلك، فإن حضور الرئيس في المشهد السياسي التونسي بات ضعيفًا، الأمر الذي ترك فراغًا بحضوره، ففتح الشهية لوراثته، لاسيما أن الباجي يرغب في توريث ابنه الذي يترأس الآن «حزب نداء تونس»، إنه الوضع نفسه الذي اتسمت به أواخر سنوات حكم بورقيبة، سنوات حرب التوريث.ثم إن نجاح حكومة الوحدة الوطنية في مجابهة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية مرهون بمجابهة الفساد الديكتاتوري، المدعوم من الطبقة الرأسمالية الطفيلية في الداخل، والذي يجد من يدافع عنه من أحزاب الائتلاف الحاكم، بينما تقتضي تحقيق التنمية المستدامة محاربة الفساد جذريًّا، نظرًا لإفراغه المجتمع التونسي مِن مبادئه المتوارثة، لِيَحُلَّ محلَّها تجمعاتٌ شاردةٌ مِن اللِّئام والمرتزقة، مِن وراء الأزمات الاقتصادية، حيثُ يَحصُل الفاسدون على أرباحٍ طائلةٍ على حساب خسائر الطَّبقات الفقيرة، التي تكدح بالعمل في المصانع والمزارع.ومن المعلوم أنَّه يمكن أن تكونَ هناك عواقبُ معقَّدةٌ لمواجهة الفساد المتضخم في تونس التي تمرُّ بمرحلَة انتقاليةٍ من الحُكم السلطوي إلى الديمقراطيَّة، واقتصاديات السُّوق الحُرَّة، لاسيما في ظل أحزاب الائتلاف الحاكم الباحثة عن تقسيم كعكعة السلطة وفق المحاصصات الحزبية، والتغاضي عن صُوَرِ الأنشطة السِّريَّة للفساد، ما جعل السقوطَ في دوامة الصَّفقات المشبوهة غيرَ قاصرٍ على القطاع العام، بل امتدَّ -بصورٍ غير معهودة- إلى المؤسَّسات الخاصَّة، والبنوك الأجنبية، والشَّركات متعددة الجنسيات، ليفتحَ الباب أمامَ المُقامِرين الجدد من السياسيين المدافعين عن الرأسمالية الطفيلية، وسياساتِ الخصخصة، التسريع ببيع القطاعات العامَّة كفرصةٍ للثراء الفاحش، عن طريق بيع الأصول العامَّة بأسعارٍ زهيدة للأقارب والأصدقاء من الباطن، لتدخلَ أموال الشَّعب في جيوب كبار الفاسدين عبرَ ممارساتٍ غيرِ شريفة تُحاك في الظلام، أدَّت إلى إفلاس الموازنات العامَّة من جهة، وإعادة إنتاج النظام الديكتاتوري الفاسد السابق الذي كافحه الشعب التونسي على مدى أكثر من أربعة عقود من جهةٍ أخرى.إن نجاح أي حكومة وحدة وطنية في تونس، يحتاج إلى بلورة إستراتيجية وطنية لمعالجة الأزمات الرَّاهنة، وفى مُقدَّمتها: التَّركيزُ على القطاعات الإنتاجيَّة، والتركيز على الزراعة التي تُغذي الصناعات الإستراتيجيَّة، وتعديل مؤسَّسات السياحة ومؤتمراتها، وتنمية الاستثمارات في الولايات الفقيرة والمحرومة تاريخيا من التنمية، وترميم الطُّرق والسِّكك الحديديَّة، والتزام حكومة الوحدة الوطنية بالحوكمة الرشيدة، وتطبيق الشفافية، وترشيد الثروات العامَّة، وتحسين الانتفاع بالقُدرات الذاتية للشعب، وضبط آليات الأسعار وموازين المدفوعات، وجعل السلطات الإدارية أكثرَ خضوعًا للرَّقابة والمحاسبة، لضمان نزاهتها، وحظر الفساد الأجنبيِّ الخارجي في الأسواق الوطنية.