11 سبتمبر 2025

تسجيل

ولا تطع كل حلاف مهين (2)

16 يوليو 2015

لماذا وصف الله الحلاف بالمهين؟ في نظري لأن الذي يكثر الحلف شخص فقد ثقة الناس فيه ومهابتهم له، وهو يريد أن يستجلب هذه الثقة بهذه الأيمان التي لها قيمتها عند من يسمعها، وليس شرطا أن يكون الحلاف المهين وضيعا عند الناس، فقد يكون ذا مال وبنين، ومن الممكن أن يكون صاحب سلطان، ولكن لا منزلة له في النفوس، فقد يصغَى إليه إخضاعا لا إقناعا، يقول صاحب الظلال عليه رحمة الله: «المهانة صفة نفسية تلصق بالمرء ولو كان سلطانا طاغية جبارا، والعزة صفة نفسية لا تفارق النفس الكريمة ولو تجردت من كل أعراض الحياة الدنيا!إذًا فالكذب قرين المهانة، وهو يحتاج إلى جهد كبير، وتفكير عميق وذاكرة حديدية، فالكذاب قد يقول الكلام ونقيضه، ولذا قالوا: إن كنت كذوبا فكن ذَكورا، فقد تذكر شيئا قد أخفيته أو قلت نقيضه، ويتحدث القرآن عن هذا الجهد من الكذابين فيقول: « وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ» (الأنعام: 109).، وقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النَّحْلِ: 38]، وقال تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) النور: 53 وقال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [فَاطِرٍ: 42]. فتأمل معي هذه الآيات الأربع، حيث التعبير القرآني جهد أيمانهم، وما فيه من بذل الجهد أمام المتلقي، إما لنفي البعث وإما لطلب شيء يظنون أنه غير ممكن الحدوث. ونلاحظ أن الله قال جهد أيمانهم ولم يقل جهد الأيمان، فنسب الأيمان لهم؛ لأنها أيمان كاذبة، لا يقسم بها إلا المنافقون الذين يتخذون أيمانهم جنة للصد عن سبيل الله، وقد أكثروا الحلف أمام النبي – صلى الله عليه وسلم – معتذرين أو منكرين ما يقولون من إرجاف، ومن ذلك: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه) ومنه أيضا: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا) التوبة: 74. وهذه الآية نزلت في المنافقين وإن كان بعض المفسرين خصها بالجلاس بن أويس بن الصامت أو عبد الله بن أبي، وذلك لما قال الجلاس: والله لئن كان هذا الرجل صادقاً فيما يقول لنحن شر من الحمير، فسمعها عمير بن سعد وكان في حجره -لأنه كان ابن امرأته- فقال: والله يا جلاس! إنك لأحب الناس إلي، وأحسنهم عندي بلاءً، وأعزهم علي أن يصله شيء تكرهه، ولقد قلت مقالة فإن ذكرتها لتفضحني، ولئن كتمتها لتهلكني، ولأحداهما أهون علي من الأخرى - يعني: هذا مما لا يسكت عليه- فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قال الجلاس، فلما بلغ ذلك الجلاس أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف بالله ما قال هذا، فأنزل الله عز وجل فيه: ((يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ))، فوقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، وتلا عليه هذه الآية وسمع الجلاس قوله تعالى: ((فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)) إلى آخره، فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته، ونزع فأحسن النزوع.وعلى أية حال فكثرة الحلف شيء منهي عنه في الإسلام الذي حث على حفظ الأيمان فقال تعالى: (واحفظوا أيمانكم) واستثنى من ذلك لغو اليمين فقال: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان).وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب» رواه البخاري ومسلم. والحديث موصول إن شاء الله