15 سبتمبر 2025
تسجيلرغم الفوضى التي عاشتها ليبيا منذ السقوط النهائي لنظام معمر القذافي، قبل ثمانية شهور، والتوترات اليومية التي كثيراً ما تتحول إلى مواجهات مسلحة، استطاع الليبيون أن يبرهنوا في السابع من يوليو أنهم لم يعودوا مستعدين للتفريط في الأساسيات، لذا مضوا إلى الانتخابات بكل اندفاع وانتظام. كانت المرة الأخيرة التي صوتوا فيها عام 1965 أيام الملكية، أما في أيام "الجماهيرية" فدعوا إلى استثناءات صورية معروفة النتائج سلفاً، وخلال العقود القذافية الأربعة بلغت أربعة أجيال سن الانتخاب من دون أن تتوافر فرصة التعبير عن خياراتها، فترعرعت معتادة على أن أصواتها لا تعني شيئاً ولا قيمة لها. كان المشهد مفعماً بالدلالات، صفوف من الرجال والنساء من مختلف الأعمار والأزياء، يغلب عليها الحماس والإصرار، طبعاً كانت هناك إشكالات أمنية هنا وهناك وهنالك، وكذلك كانت أخطاء وتأخيرات وشكاوى، لكنها ظلت في حدود المعقول والمتوقع، المهم أن العملية الانتخابية نفسها بدأت وانتهت بنسبة عالية من النزاهة وهذا في حد ذاته شرط لازم للحصول على نتائج تمثيلية صحيحة غير قابلة للدحض، لم ينس أبناء الجيل المخضرم أن انتخابات 1964 قوبلت نتائجها بموجة عارمة من النقد بسبب ما شابها من تزوير، ما أوجب إلغاءها ومعاودة إجرائها في العام التالي، ولم تنس الأجيال التي شبّت أو ولدت في "عهد الثورة" أن نظام الرجل الواحد محا من قاموسه أي انتخابات أو حاجة الشعب إلى المشاركة في صنع المستقبل وطنه. بمعزل عن نتائج انتخابات المجلس الوطني لم يخطئ الذين قالوا، وهم من مختلف الانتماءات، إن المنتصر الحقيقي كان الشعب الليبي، فهذا الاقتراع كان بمثابة اختبار له وقد اجتازه بنجاح، ثم أنه ساهم في إخماد دعوات الانفصال والغدرلة وما إلى ذلك من الخيارات الانفعالية والعشوائية, وبالتالي فهو دشن الاستحقاق الأول في المرحلة الانتقالية، ولم يعد مسموحاً التراجع فيها ولا الاستمرار في النهج الاعتباطي الذي نشأ غداة إسقاط النظام السابق، ومنذ الآن لم يعد مقبولاً الإخلال في بناء الدولة، إذ أن المسؤولية باتت الآن متمتعة بشرعية الانتخابات ولن يكون متاحاً الاختباء وراء أي أعذار، فالمسيرة يجب أن تبدأ وأي خطأ أو تأخير فيها سينعكس على البلد واستقراره. من بين الدول التي شهدت تغييراً في أنظمتها تحت وقع ثورات وانتفاضات، انفردت ليبيا ببروز القوى والأحزاب الليبرالية، وأيضاً بحضور للأحزاب ذات الطابع الديني من دون اكتساح صناديق الاقتراع على غرار ما حصل في مصر وتونس، المسألة لا تحمل تأويلات مركبة ومعقدة، إذ أن الخيار كان حرا وطالما أن الناخبين أقبلوا على قوائم الليبراليين فهذا يعني أنهم يعرفون أي نمط من الأنظمة يريدون لدولتهم الجديدة، لم يشأوا الانتقال من أيديولوجيا إلى أخرى، والأهم أن الاقتراع لم يتحوّل إلى عملية إقصاء لفريق لمصلحة آخر، أي أن المجلس الوطني سيضم أكبر عدد ممكن من الكيانات التمثيلية بما فيها الإسلامية، وهذه المعادلة ستكون شبيهة بالمجتمع ولا هيمنة فيها لطرف واحد. لعل الانتخابات الليبية نجحت في إنجاز ما لم يكن متوقعا منها، وهو أن تعطي الإسلاميين نسبة التمثيل التي هي لهم بكل دقة وإنصاف، فالمسألة غاية في الأهمية لأن الاستحقاق المقبل هو كتابة الدستور، ما يتطلب توازناً في ترجيح المفاهيم، قد يعزى هذا الإنجاز إلى حسن اختيار النظام الانتخابي، وهو ما لم يتأمن في مصر وتونس. ثم إن فصل انتخاب هيئة اعداد الدستور عن انتخاب المجلس الوطني بدا كأنه أراد تجنب الإشكالات التي حصلت في مصر ولا شك أن في ذلك حسن تدبير، لكن الدلالة الأهم لبروز الليبراليين تكمن في أن الليبيين، خلافاً للتونسيين والمصريين، وضعوا شعار "الدولة المدنية"، الذي رفعوه كسواهم خلال الثورة موضع بلورة وتنفيذ بعيدا عن أي شكوك وعن أي أجندات خفية، وأصبح محسوماً أن التناقض بين القبيلة والجماعات الإسلامية هو الذي أعطى الليبراليين هذه المكانة، فالقبيلة هي التي حافظت على ترابط النسيج الاجتماعي، وهي التي بددت التغييرات الجذرية التي حاول النظام السابق فرضها بالقوة على شعب ليبيا، وهي أخيراً التي حالت دون هيمنة الأحزاب الدينية على الواجهة السياسية، إذ كان لافتاً أن بعض الشبان استهجن خطاب الإسلاميين بالقول: إنهم يعتقدون أننا نعبد الأصنام وأنهم جاؤوا لتبشيرنا بالإسلام. من الواضح أن الإسلاميين عولوا على الدور الذي قاموا به خلال الثورة متوقعين أن يكافئهم الشعب في الانتخابات، لكن آخرين كثيرين ساهموا أيضاً في تلك الثورة، ولم يكن منصفاً أن تغمط حقوقهم، ومنهم ذاك الذي نقلت عنه "وكالة الصحافة الفرنسية" قوله: "لم أقاتل وأحمل الشهداء المخضبين بالدماء من خط الجبهة حتى يتولى الإسلاميون السلطة ويعزلونا عن العالم من جديد", العزلة، هي ما عاشته غالبية الليبيين طوال العقود الأربعة الماضية، ولا يريدونه أن يتكرر، هل في ذلك "تشويه" و"افتراء" على الإسلاميين وصورتهم بأنهم لا يحققون الانفتاح، وبالتالي لا يهتمون بمسألة الحريات؟ هذا في أي حال سؤال مطروح عليهم في ليبيا كما في مصر وتونس وفي كل مكان.