16 سبتمبر 2025
تسجيلتتجلى عظمة وشمولية الدين في وضع تشريعات تفصيلية لتنظيم شؤون الناس وعلاقاتهم في المجتمع الواحد، ومن ذلك وضع قواعد للحكم على الآخرين، لئلا يُترك هذا الأمر للأهواء فيكثر الفساد في الأرض. وإن من أبرز هذه القواعد التي تمس واقع الناس بقوة، أن الأحكام لا تُجرى على النيّات والبواطن، وإنما تجرى على ظاهر أفعال الناس، لأنه لا سبيل لمعرفة بواطنهم، ولو ساغ ذلك لما كان للعدل في هذه الحياة نصيب. لم يختلف أحد من علماء المسلمين على أن الأحكام بين الناس تجرى على الظاهر، وأما السرائر فموكولة إلى الله تعالى يقضي فيها بعلمه في الدار الآخرة، كما بين الشاطبي في كتاب الموافقات: "أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصا، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموما أيضا، فإن سيد البشر صلى الله عليه وسلم مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه". قطع الشرع الطريق على إيقاع الظلم على الناس بالحكم على بواطنهم، وهو أمر يظهر في اعتماد قضايا الدعاوى إلى الحديث الشريف الذي يمثل قاعدة جليلة بهذا الشأن: (البينة على من أدعى واليمين على من أنكر) رواه البخاري، فالمُنكِر الذي يلزمه اليمين ربما يقسم زورًا وباطلًا، لكن يُقبل منه ظاهره طالما أن المُدعي يفتقد البينة، وهو أمر عام، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم احتاج إلى شاهد على أنه ابتاع فرسًا من أعرابي أنكر ذلك، فلما شهد له خزيمة بن ثابت جعل شهادته بشهادة رجلين. استدل أهل العلم على أن الأحكام تجرى على الظاهر لا الباطن، بعدة أدلة، منها قول الله تبارك وتعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. قال الشوكاني:" وَالْمُرَادُ هُنَا: لَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَيْكُمْ وَاسْتَسْلَمَ: لَسْتَ مُؤْمِنًا، فَالسَّلَمُ وَالسَّلَامُ كِلَاهُمَا بِمَعْنَى الِاسْتِسْلَامِ وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ، أَيْ: لَا تَقُولُوا لِمَنْ ألقى إليكم السلام- أَيْ: كِلَمَتَهُ، وَهِيَ الشَّهَادَةُ-: لَسْتَ مُؤْمِنًا وَقِيلَ: هما بمعنى التسليم، الذي هو تحية أَهْلِ الْإِسْلَامِ، ....وَالْمُرَادُ: نَهْيُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ أَنْ يُهْمِلُوا مَا جَاءَ بِهِ الْكَافِرُ مِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى إِسْلَامِهِ، وَيَقُولُوا: إِنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ بِذَلِكَ تَعَوُّذًا وَتَقِيَّةً". ولنا في تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع المنافقين عبرة، فقد كان يعلم نفاق بعضهم، ومع ذلك لم يعاملهم معاملة المُظهر للكفر لا في النكاح ولا المواريث ونحوهما، فكانوا يرثون من المؤمنين ويرث المؤمنون منهم، يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بعض أسمائهم لكنه حرص على تقرير هذا الأصل في التعامل مع الناس، لأنهم أمام المؤمنين يصلون صلاتهم ويستقبلون قبلتهم ويصومون كما يصومون ويحجون ويغزون. آفة الحكم على بواطن الناس واتهام نواياهم استشرت كنتيجة طبيعية للنأي عن تعاليم الشريعة، وهو باب عظيم من أبواب الشرور وتعميق الشقاق والخلاف بين الناس، فالذي يحكم على نية غيره وباطنه يظل مصرا على دعواه دون بينة لأنه انساق بهواه إلى ذلك، والذي يُوجَّه إليه الاتهام في نيته وباطنه لن يستطيع إقناع الآخر بغير ذلك، فتبقى الحقائق عالقة. الحكم على بواطن الناس جرأة وقحة على الشريعة التي أكدت على هذا الأصل، ولو ترك الشارع للناس أمر الحكم على النوايا لعاشت البشرية أسوأ كوابيسها، وضاعت الحقوق وسفكت الدماء، لكن الله تعالى حكيم، عليم بما يصلح العباد، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.