17 سبتمبر 2025

تسجيل

قراءة في أزمة المشهد السياسي العراقي

16 يونيو 2014

عاد شبح سايكس بيكو جديد أو إعادة تقسيم كل بلدان الشرق الأوسط من جديد، المفروض من الخارج للظهور بشكل متواتر مع الغزو الأمريكي للعراق في مارس سنة 2003،. وبدا التصدع كبيراً وسريعاً، بسبب فشل السياسات التي اعتمدت خلال عقد كامل من الغزو الأمريكي للعراق، في بناء دولة وطنية ديمقراطية في هذا البلد العربي.. فها نحن نشهد اندفاعة قوية لتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش)، باتجاه السيطرة على العاصمة العراقية بغداد، بعد أن غزا مدن الموصل وتكريت، والسامراء، خلال الفترة الأخيرة. إنّ ما يجري في العراق، من تنامي سطوة التنظيمات الإسلامية المتشددة، يؤكد مرّة أخرى على فشل مغامرة الولايات المتحدة وبريطانيا، فالوقائع في العراق، تثبت أن مدبّري هذه المغامرة العسكرية، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة وبريطانيا، لم يعودوا يسيطرون عليها كذلك. ويتحمل الغرب مسؤولية زعزعة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط،وما نجم عنها من عواقب وخيمة، لجهة تحطيم الدولة الوطنية العراقية، وإفساح في المجال لقيام نظام طائفي شيعي موالي لإيران.. وما من شك في أن من غزا العراق قبل عشر سنوات،، ويواصل فرض قراراته وإرادته على شعوب المنطقة العربية، أسهم بشكل كبير في إطلاق عملية زعزعة الاستقرار،وتدمير الدولة الوطنية العراقية، وهي النتيجة الواضحة اليوم عملياً في سائر الشرق الأوسط. إن سيطرة تنظيم "داعش" على المناطق النفطية الحدودية بين سورية والعراق، تعزز بطريقة رمزية مطلب الحركات الإرهابية في إقامة دولة للخلافة في المنطقة. ويعيش العراق اليوم مدًا غير مسبوق للقوى الدينية الطائفية والرجعية. فهذه القوى تكرس قوى الطوائف، وتضعف دور القوى الوطنية والديمقراطية، وتهدد بقيام "دول" أحادية الطائفة. لأن الوفاق الطائفي مستحيل، ما لم يلبّ مطالب كل الطوائف،و في مقدمتها الطائفة السنية التي تعاني من التهميش السياسي المفضوح،أو يفرض هيمنة بعضها على بعضها الآخر. ولأن السياسة الأميركية – الصهيونية والإيرانية، كانت تؤيد التبلور الطائفي هذا ولا تزال، الذي يقود حتماً إلى تقسيم العراق على أساس طائفي مذهبي وعرقي. في السنوات التي تلت ما بعد الغزو الأميركي للعراق، كانت المشكلة الأخطر التي تواجه المجتمع العراقي، هي المشكلة الطائفية، لأنها تحول المواطن من مواطن يفكر على صعيد الوطن إلى فرد يفكر على صعيد الطائفة. ولما كانت الطوائف متداخلة ومتشابكة في المعيشة والحياة، فإن اتجاه طائفي سوف يثير عداء بين مواطنيها، ويقود إلى صراعات طائفية وحرب أهلية، كحرب لبنان الأهلية، مما يسهل استقطاب المواطنين على أسس طائفية، ويبعدهم عن البرنامج الوطني الديمقراطي.و عليه فإن التوجيه الطائفي هو ما تسعى إليه الامبريالية الأميركية والعدو الصهيوني لاستخدامه سلاحا في معركتها من أجل تفتيت إرادة المواطنين العرب، لتوجيه الصراع في اتجاه خاطئ، مضاد للاتجاه التاريخي. وحين حصل الغزو الأميركي للعراق، انهارت معه الدولة الشمولية العراقية بطريقة دراماتيكية. وانهار معها. حزبها ومؤسساتها الأمنية والعسكرية ومنظماتها ومجتمعها. لأن هذه الدولة المتغولة كانت كل شي ء. وقضت على بنى المجتمع المدني الحديث التي كانت من المفترض أن تشكل خنادق الحرب المعاصرة. عندما تنهار سلطة الدولة الحديثة. على حد قول أنطونيو غرامشي. وحين فتكت هذه الدولة الشمولية العراقية بمؤسسات المجتمع الأهلي التقليدية. ومؤسسات المجتمع المدني الحديثة كالأحزاب السياسية والنقابات والمنظمات الشعبية. جسدت ثقافة العنف الوطني، الأمر الذي يفسر لنا أيضا غياب هذا المجتمع المدني في زمن الكارثة العراقية الحالية بعد الهزيمة العسكرية لمؤسسات الدولة الشمولية العراقية:الجيش. والحرس الجمهوري. وفدائيي صدام. و جيش القدس. بيد أن الأحزاب السياسية المتبرقعة بالطائفة والقبيلة والمذهبية،ورثة الدولة الشمولية العراقية في زمن الاحتلال الأميركي، عجزت أن تبني دولة وطنية عصرية، لأن هذا ليس في برنامجها، ولا هي مؤهلة لذلك، كما أنها استبدلت ثقافة العنف الوطني الذي كان سائدا في العهد السابق بثقافة العنف الطائفي- المذهبي، الذي يتبجح بطائفيته، كما هو الحال في ظل نظام نوري المالكي، التابع لإيران. فانتقل المجتمع العراقي بذلك من ثقافة عنف الدولة الشمولية إلى ثقافة كابوس العنف الطائفي، وفرق الموت، والإرهاب الأعمى، والقتل على الهوية. تلك هي صورة العراق الجديد الذي يتماهى مع إيديولوجية الفوضى الخلاقة، التي روج لها المحافظون الجدد. وقد أسهمت مجموعة من العوامل في تبلور القوى الطائفية. أولها: إعطاء الدول الامبريالية، وعلى رأسها الامبريالية الأمريكية العالم العربي اهتماما خاصا بحكم موقعه الاستراتيجي، وتحكمه بمضائق ومحيطات وبحار عديدة، واحتضانه في مخزونه الجوفي ثروة نفطية هائلة، واحتمال فقدان العالم العربي لمصلحة القوى الوطنية والديمقراطية، الأمر الذي يشكل ضربة قاسمة للعالم الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، والطبقات والفئات المحلية التابعة. ثانيها:قيام دولة الكيان الصهيوني، سنة 1948، وحرصها على منع تحرر الجماهير العربية من ربقة الأنظمة الشمولية،و منع وحدتها بكل الوسائل. ثالثها: ازدياد تغلغل العولمة الرأسمالية في المجتمعات العربية، حتى هزّ كل البنى التقليدية (المدينة، القرية، القبيلة، الطائفة) ودفع قطاعات تقليدية للدفاع عن مواقعها، خشية أن يجرفها سيل "الحداثة" الجارف. رابعها: عجز "الثورة الإيرانية" عن كسب معركة احتلال العراق والخليج في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، وإقامة دولة "إسلامية "في العراق. خامسها: انشغال الأطراف الدينية والطائفية بالمعارك الداخلية عن المعارك مع الامبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني، ومحاولة إشغال كل الأطراف، على الصعيد العربي، أو صعد الدول الإسلامية بالصراعات الداخلية. وقد التقت هذه العوامل جميعا، لتدفع القوى الامبريالية، بقيادة الولايات المتحدة، والكيان الصهيوني، وإيران،إلى البحث عن وسائل ناجعة للجم قوى التغيير الديمقراطي وفرض هيمنة القوى الطائفية. و اكتشفت هذه القوى مجتمعة ما يلي: أولا: أنها تستطيع توظيف الدين، ضد القومية والديمقراطية. فتجند جماهير واسعة من المؤمنين وترد على الهجوم الإيديولوجي بهجوم ايديولوجي واسع، له جذوره التاريخية، وركائزه الشعبية. وهكذا يرد على البرنامج القومي ببرنامج إسلامي ذي بعد طائفي، ويواجه الوحدة القومية بوحدة إسلامية، ودولة الحق والقانون بدولة إسلامية، والديمقراطية بالشورى، والحريات الديمقراطية بتطبيق الشريعة. فيكون الرد إيديولوجيا وسياسيا شاملا، ويصبح الديمقراطيون كفرة وملحدين خارجين على الدين.. ثانيا: أنها تستطيع أيضا حشد قوى الطوائف وراء زعامات طائفية، فتسحب من الأحزاب معظم قواعدها ورصيدها الشعبي، وتغلق تجمعات الطوائف في وجه الديمقراطية والقومية، وتثير نزاعات ليس لها حدود، لا تمنع وحدة الوطن فحسب بل تخلق فيه شروخا عديدة جديدة، وتستنزف قواه في صراعات داخلية متجددة. ثالثا: إنها تستطيع انتزاع زمام المبادرة بتكوين أحزاب طائفية مسلحة، لها مليشيات مسلحة، تمتلك الوعي السياسي، والتنظيم والتدريب. ومع سقوط الدولة الشمولية العراقية، وفي ظل الاحتلال الأمريكي، ارتبط الهجوم السياسي والأيديولوجي للقوى الطائفية المسنودة لوجيستيكيا وماليا من جانب إيران، بتكوين ميليشيات مسلحة، مستعدة للمواجهات، وقادرة على المبادرات. وخاضت هذه القوة الطائفية معارك غير معارك القوى الوطنية والديمقراطية، لأنها معنية بإقامة سلطة الطائفة الشيعية، ونشر ثقافة العنف المذهبي. و عملت برعاية أنظمة إسلامية مثل إيران، وقوى دولية على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.