14 سبتمبر 2025

تسجيل

الحاجة إلى صناعة رعب!

16 مايو 2024

قد يبدو غريباً العنوان أعلاه. لكن ما من شيء في حياتنا الدنيا إلا وله صناعة، أو حاجة تدعو إلى تصنيعه بصورة وأخرى، سواء كان هذا الشيء مادياً أم معنوياً. وفي التاريخ البشري الكثير من الصناعات، منها صناعة الرعب التي أرى الأمة باتت بحاجة ماسة إليها أكثر من أي وقت مضى. قصص تصفية الرموز الخطرة والمثيرة للعداوات والفتن كثيرة في التاريخ البشري، منها مثلاً قصص تصفية كعب بن الأشرف وأبي رافع سلام بن أبي الحقيق وغيرهم من مجرمي ومثيري الفتن من اليهود، وهي نماذج لصناعة رعب كان الظرف الزمني حينها يقتضي من المسلمين، دولة وأفراداً، القيام بها واتقانها وفق ضوابط مقننة وليست مطلقة، رغم الظروف الخطرة المحيطة بالمسلمين حينذاك. فهؤلاء المجرمون اشتهروا بعـداوتهم لشخص الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – أولاً ومن ثم الإسلام والمسلمين، ولعبوا دوراً في الكثير من المؤامرات لتفتيت كيان الدولة المسلمة الوليدة، وإثارة الفرقة والعداوة بين المسلمين بعضهم البعض، ومع غيرهم من الملل والنحل وفي أحلك الظروف التي كانت تمر على المسلمين يومها. أما الأول، وهو كعب بن الأشرف، فقد كان يجاهر بالعداوة للمسلمين رغم وثيقة المدينة التي من بينها بنود خاصة بيهود المدينة تطلب منهم الوقوف مع المسلمين في حال الحرب، وعدم القيام بما يسيء للعلاقات البينية. إلا أن ابن الأشرف هذا بالغ في العداوة بعد معركة بدر، وازداد في عداوته للإسلام والمسلمين بعد اجلاء بين قينقاع من المدينة إثر انتهاكهم لوثيقة المدينة - على عادة يهود في نقض المواثيق والعهود - وازداد سفاهة وجرماً حين بدأ يهجو نساء المسلمين وصولاً إلى أمهات المؤمنين، ووصفهم بأبشع الأوصاف وأكثرها فحشاً، حتى صار يدفع المال بسخاء لمن ينشر شعـره البذيء بين القبائل العربية. ابن الأشرف في حرب إعلامية مارس ابن الأشرف عملياً ما نسميه اليوم بالحرب الإعلامية التشهيرية للنيل من معنويات المسلمين، وهم في فترة تكوين وترسيخ جذور، حيث الحاجة لكثير تركيز واجتهاد، مع بعد عن مشتتات أو ملهيات، إلى أن بلغ الأذى بالرسول الكريم - وهو المبعوث رحمة للعالمين - أن يطلب من أصحابه الكرام قائلاً: من لي بابن الأشرف، فقد آذاني؟ يقوم محمد بن مسلمة - رضي الله عنه - وهو من قبيلة الأوس يقول: أنا به يا رسول الله. ثم يخرج مع عدد من الصحابة الذين كانت تربطهم علاقة مودة مع يهود المدينة، ومنهم ابن الأشرف هذا، لتقوم تلك الصحبة الفدائية بمهمة محددة دقيقة، هي تصفية ذاك البذيء المسيء للإسلام والمسلمين، والذي قام على رعاية وصناعة الكثير من الأذى النفسي والمعنوي للمسلمين، فكان من الطبيعي والمنطقي أن يكون الرد عليه ولكن بصناعة أخرى دقيقة ومحبكة، تُلقي نتيجتها رهبة ورعباً شديدين في قلوب أتباع ابن الأشرف ومن على شاكلتهم من يهود المدينة، وقد كان. حيث هدأت الحروب الإعلامية اليهودية المعادية للمسلمين بعد تصفية ابن الأشرف، وسكن الرعب قلوبهم، ولم يجرؤ أحد من اليهود القيام بأي فعل معاد للمسلمين بعدها، بل لم يجرؤ أحد قادتهم الخروج لوحده بعد ذلك ! بعد أن نال الأوس شرف القضاء على أحد مثيري الكراهية والعداوة في صفوف المسلمين بالمدينة، تحرك الخزرج للقيام بعمل يوازي عمل الأوس، بعد ما عُرف عن القبيلتين تنافسهما الشديد في تقديم الغالي والنفيس في سبيل الدعوة، ونيل رضا الله ورسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - فقالت الخزرج بعد تصفية ابن الأشرف: والله لا تذهبون بها فضلاً علينا أبداً؛ فتذاكروا مَن رجلٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العداوة كابن الأشرف؟ فذكروا أبي رافع سلام بن أبي الحقيق، وكان من زعماء يهود خيبر الذين دأبوا على معاداة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وحبك المؤامرات والمكائد. فاستأذنوا الرسول الكريم في تصفيته، فكان لهم ما أرادوا. اليد الطولى للمسلمين خرج إليه خمسة من فدائيي الخزرج، بعد أن وضع عليهم أميراً هو الصحابي عبدالله بن عتيك رضي الله عنه، ونهاهم أن يقتلوا وليداً أو امرأة. فخرج الخمسة بعد تنسيق وتخطيط محكم دقيق، كلٌ في مهمته، فكانت مهمة عبدالله دخول حصن خيبر المنيع لوحده وتنفيذ خطة التصفية، رغم خطورة تنفيذ هذا العمل وهو وسط كثافة يهودية مسلحة. فقام بتصفية عدو الله أبي رافع وهو في فراشه وبين أهله، في مغامرة وعملية فدائية لا يقوم بها سوى القليل القليل من المؤمنين. لكنه ما خرج سريعاً بل انتظر بالحصن حتى الصباح ليتأكد من نفوق عدو الله ابن أبي حقيق. ولما سمع بخبر اغتياله من إعلام العدو، خرج دون أن ينتبه إليه أحد، وينضم إلى بقية الفدائيين متجهين إلى المدينة يبشرون رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بنجاح مهمتهم وتصفية أحد أعداء الله وأعداء رسوله. خبر تصفية ابن الأشرف ومن بعده ابن أبي الحقيق في فترة زمنية قصيرة، أرعب يهود المدينة جميعاً، ومنهم خيبر المنيعة، وعلموا أن يد المسلمين يمكنها أن تطولهم وإن كانوا في مضاجعهم وفي حصونهم. فكانت تلك العمليات المقننة سلاحاً معنوياً أمر باستخدامها القائد الأعلى للقوات المسلحة لدولة المسلمين يومها، وهو رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، كي تكون وسيلة ناجعة لبث الرعب في قلوب العدو، ورسالة حازمة له تجعله لا يتحرك وفق مزاجه وهواه، ويتآمر مع هذا وذاك وغيرهم على حرب الإسلام والمسلمين. غزة ورعـب العـدو ما يجري للعدو الصهيوني المحتل الآن في غزة من بعد السابع من أكتوبر، هو نوع من صناعة الرعب، التي أجادت المقاومة فيها، فإن ما قامت به المقاومة في غزة حتى اليوم، أثبتت فاعلية وأهمية هذه الصناعة، وتأثيرها المعنوي والنفسي الكبير على العدو، حكومة وجيشاً وقطعان مستوطنين، ومن معهم من داعمين دوليين ذئاب لئام. فالصواريخ والمسيرات وحقول الألغام ورشاشات الغول، وحصد الآلاف منهم ما بين قتلى وجرحى ومعاقين، كلها وسائل رعب لم يكن يتوقعها هذا العدو بهذه الكثافة والنوعية والنتيجة، فجعلته يراجع كل حساباته ومعه الذئاب والكلاب والضباع الغربية وبعض العربية، فقد بلغ الرعب بالعدو ومن معه مبلغاً، لم يسبق لهم جميعاً أن رأوه وعايشوه من ذي قبل. تبقى بعد ذلك نماذج تصفية ابن الأشرف وغيره في حسابات المقاومة كإحدى الوسائل الرادعة، ضمن استراتيجية صناعة الرعب الموجهة ضد العدو، وإن كنت لا أعتقد أنها خافية أو منسية. وكما أن دولاً كثيرة اليوم، كخلاصة وخاتمة لهذا الموضوع، تتفنن عبر أجهزة المخابرات لديها في صناعة الرعب الموجهة نحو منافسيها وأعدائها على حد سواء بصورة سرية، ويقوم هذا العدو بالأمر نفسه لكنه يجاهر ويتفاخر بخطط تصفية رجال ورموز المقاومة، فإن المقاومة الفلسطينية مطالبة القيام بالمثل، بحسب الإمكانات، والإعلان عن خطط تصفية رموز الكفر والإجرام في كيان العدو السياسي منه والعسكري، بل والاجتهاد على تنفيذها كما العدو يفعل. إنها حرب مفتوحة بين حق وباطل.. وواحدة بواحدة، والبادئ أظلم.