20 سبتمبر 2025

تسجيل

كنعان إيفرين: حيّ يرزق!

16 مايو 2015

ليس من أحد لم يسمع باسم كنعان إيفرين، إنه مهندس وقائد انقلاب 12 سبتمبر 1980 في تركيا ورئيسها حتى العام 1989، وقد توفي مطلع الأسبوع الحالي ودفن خارج أي مشاركة رسمية مؤثرة.تركيا هي بلد الانقلابات العسكرية من قبل أن يطاح بدور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية في 12 سبتمبر من العام 2010 وهو توقيت الاستفتاء الذي جرى قصدا في اليوم نفسه الذي حدث فيه الانقلاب قبل ذلك بـ28 سنة.وكانت الانقلابات العسكرية في تركيا مرعيّة دائما من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، ومن دون ضوئها الأخضر ما كان ممكنا لها أن تحدث.بلغ عدد الانقلابات العسكرية في تركيا ثلاثة: أعوام 1960 و1971 و1980. ويمكن إضافة قرارات 28 فبراير عام 1997 لمجلس الأمن القومي على أنها انقلاب رابع غير مباشر من خلال إجبار رئيس الحكومة حينها الإسلامي نجم الدين أربكان على التوقيع على قرارات تعتبر تصفية للحركة الإسلامية ما اضطره إلى الاستقالة بعدها بأربعة أشهر.التحول الأساسي في المشهد "الانقلابي" في تركيا جاء بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، حمل الحزب مشروعا بتعزيز الحريات والديمقراطية، ونجح فيه في المرحلة الأولى بنسبة لا بأس بها، ولكن ذروة النجاح كانت في شل يد المؤسسة العسكرية لتكون هي المقرر والآمر والناهي في القرارات السياسية. وهو ما كان يعرف بـ"الدولة العميقة" التي كانت تتكون من أجهزة غير منتخبة من الشعب مثل المؤسسة العسكرية نفسها وجهاز الاستخبارات والمجالس القضائية ومنها المحكمة الدستورية وهيئات اقتصادية وإعلامية والتي كان يشكل المتشددون القوميون والعلمانيون عصبها بحيث كانت قرارات الحكومة أو تشريعات البرلمان موضع مراقبة تمنع اتخاذ أي قرار لا ينسجم مع ما كانت ترسمه لنفسها "الدولة العميقة" من خطوط حمراء في جميع القضايا الداخلية والخارجية، والسلطة التي لا تنسجم مع توجهات الدولة العميقة إما أن تستقيل أو تواجه التهديد بالانقلاب. وكانت انقلابات "حديثة" تراعي شكليات المعاصرة، أي أن الانقلابيين سرعان ما كانوا خلال سنة أو سنتين يخلون الساحة من جديد للسياسيين بإجراء انتخابات نيابية يعود الحكم فيها للمدنيين مع لزوم الانصياع للوصاية العسكرية- القومية العلمانية المتشددة، وهو ما عرف باسم ديمقراطية العسكر أو الديمقراطية العسكرية.والعسكر في كل أنحاء العالم لم يكن يوما ديمقراطيا عندما يلجأ إلى تغيير السلطة بالقوة، فشرعية أي سلطة مستمدة من انبثاقها عن انتخابات شعبية لا عن مؤسسات معينة، والسلاح الذي يمتلكه العسكر من دبابات ومدافع وطائرات وبوارج ليس ملكا لأي ضابط لكي يستخدمه فيما يعتقد أنه خطأ من جانب السلطة السياسية، فمحاسبة السلطة السياسية هي من الشعب الذي جاء بها لا من الجنرالات الذين كل ميزتهم أنهم تدرجوا تلقائيا بحكم الزمن من أدنى رتبة عسكرية إلى أعلاها فيما أيضاً مهمة القوى العسكرية الدفاع عن الحدود ضد التهديدات الخارجية، أما في الداخل فيأتمر العسكر بأمر السلطة السياسية وخلاف ذلك فإن أي تدخل للعسكر في الشأن السياسي مخالف لأبسط أنواع الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية.ولقد أمعن انقلابيو 1982 في تركيا في تفتيت المجتمع التركي إعدامات واعتقالات بالجملة وتعذيب وإخفاء للأشخاص، وأمعنوا في تهشيم الحياة السياسية فرموا بمعظم الزعماء في السجون وحظروا الأحزاب. ولم يوفروا وسيلة إلا استخدموها من أجل سحق المعارضين من يسار وليبراليين وإسلاميين وأكراد، بحيث أورثوا الأجيال اللاحقة كمّا من الرعب والكبت لا مثيل له خلق عقدا نفسية ودمارا اجتماعيا لا تزال آثاره إلى اليوم.لكن الأنكى من كل ذلك أنه رغم محاولات الإصلاح الواسعة التي قامت بها الحكومات اللاحقة على الانقلاب العسكري فإن ما تركه انقلاب 1980 لم يزل واضحا وأولها أن دستور العام 1982 الذي وضعه العسكر لا يزال، رغم التعديلات الكبيرة التي طالته على مراحل، هو المعتمد حاليا من دون أن ينجح حزب العدالة والتنمية على امتداد 13 عاما من حكمه المستمر في أن يعدّ دستورا جديدا حديثا ومعاصرا على يد النخبة المدنية.وكما بات شائعا في تركيا اليوم فإن كنعان إيفرين، قائد الانقلاب ورئيس الجمهورية حتى العام 1989 قد مات فعلا لكن إرثه الفظيع والسلبي لم يزل حيا يرزق تتنعم به كل الطبقة السياسية التركية على مختلف مشاربها وميولها.